مقاهي دمشق وأصحابها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر* بريجيت مارينو
رغم المناقشات الحامية التي أثارها دخول القهوة إلى سورية في القرن السادس عشر فإنها، وهي اليمنية الأصل، غدت نتاجاً منتشراً في دمشق وإن منع تناولها مرات عديدة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما سنشير في حينه. (1) وظهرت مع انتشار هذا النتاج الجديد منشآت مخصصة لتناوله وهي المقاهي. وتسمح لنا روايات الرحّالة الغربيين والوثائق القضائية المودَعة في سجلات محاكم دمشق الشرعية (2) بتحديد مواقع المقاهي في المدينة ووصْفِها من الداخل، وتمييزِ روادها، والتحقق من شخصيات أصحابها المستثمرين لها.
وكما تُقدَّم القهوة للضيف عندما يدخل بيتاً تُقدَّم إلى الزبون الذي يناقش بائعاً. وهذه العادة تستحق منا أن نقوم بجولة صغيرة على حوانيت السوق قبل أن ندخل المقاهي.
ويصف دو بلانش الذي دعاه صاحبُ حانوت غنيٌّ الضيافةَ التي قُدِّمت له قائلاً: " لم ينسَ وهو يُطلعنا على غناه أن يطلب حسب العادات الشرقية، القهوة اليمنية (المخا) التي لا يمكن الاستغناء عنها، والتي قُدمت لنا في فناجين نفيسة على آنية مرصَّعة بالذهب الدقيق". ومورِست هذه العادة أيضاً في " الدكاكين الصغيرة" التي كانت تُعرض حولها بطريقة مغرية أشياءُ للبيع كما يشير روبنسون. وأمام هذه الدكاكين مصاطب مفروشة بسجاجيد ومساند لتكون مقاعد للمشترين. وما إن يجلس المشتري حتى يبدأ البائع بمَلءِ غليون يقدمه إلى الزبون، مشيراً في الوقت نفسه إلى القهوجي الذي هو في الخدمة دائماً أن يجلب فناجين من القهوة. ثم يتبادل الطرفان مجاملات لا معنى لها ولا هدف هاماً. وبعد هذه المقدمات الضرورية يبدآن في الكلام في أمور البيع والشراء ". ويؤكد لورتي أنه " مع الوقت والصبر، وكثير من فناجين القهوة، وأيام كثيرة من النقاش، يمكن الحصول على قطع جميلة من السجاجيد البهية ذات الألوان المنسجمة، من فارس أو من جبال آسية الصغرى أو من كردستان.
وإذا كانت القهوة ترافقُ جولاتِ الرحالة وشراءَهم من الأسواق فإنها تُتَناول أيضاً في منشآت خاصة تسمى المقاهي. وأشير إلى وجود ما يزيد على مئة من هذه المقاهي في دمشق خلال القرن التاسع عشر.(3)
ولا نملك إلا معلومات قليلة عن مراحل انتشارها، ولكننا نعرف تواريخ بناء بعضها.
وأَقدمُ المقاهي المذكورة في هذه المراجع هو المقهى الذي بناه مراد باشا ضمن وقْفِه عام 1003ه = 1595م قرب المسجد الأموي. وتدلّ وثيقة تحمل تاريخ العام التالي 1004 = 1596 على أن والي دمشق سنان باشا أوقف ثلاثة مقاه على منشآت دينية، تقع اثنتان منها في حي العمارة وحي باب مصلى، والثالثة في قرية جنوب دمشق. (4)
ويُعرَف بناء تاريخ بعض المقاهي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ فقد بنى دفتر دار دمشق (مدير المالية) فتحي أفندي الفلاقنسي مقهى في حي الميدان قبل إعدامه عام 1159 ه = 1746 م. (5). كما بُني مقهى آخر في الحي نفسه عام 1163 ه = 1749 م، تعود ملكيته إلى أسرة الموصلي. وفي عام 1169 ه = 1756 م بُنيت ثلاثة مقاه جديدة في أحياء الشاغور وباب سريجة وباب مصلى (6). ويُشار ما بين عامَي 1827 – 1830 م إلى مقهيين آخرين، أحدهما وقفٌ لمتنفذ عسكري هو حس تركمان كتخدا، ويقع في زقاق الوسطاني، والثاني في زقاق بدر، وكلاهما في حي الميدان. وكان مقهى العصرونية قد بُني في مطلع سبعينيات القرن التاسع عشر.(7)
مواقع المقاهي:
إن مقاهي دمشق، وخصوصاً تلك التي تقع على ضفاف بردى، هي المظهر الذي كان يجتذب أنظار الرحالة الغربيين أكثر من مظاهر المدينة الأخرى.
المقاهي الكبيرة على ضفاف بردى:
يلاحظ أديسون أن هذه المدينة شهيرة بكثرة مقاهيها وأناقتها، وأنها من هذه الناحية هي باريسُ الشرق بالتأكيد. ويحدد وجود كثير من هذه المنشآت الكبيرة من هذا الأنموذج في أماكن مختلفة. ولكن الأكثر ارتياداً من بينها هي تلك الواقعة على ضفاف بردى، والتي هي حقاً ممتعة إذا قورنت بما يمكن أن يوجد في أماكن أخرى في الشرق.
ونجد مقارنة أخرى بين دمشق وباريس لدى لارومي، يقول: تحت أشجار الدلب المزروعة على شكل مربعات تتوسط كل واحد منها شجرة خامسة تقع مقاهٍ يمكن مقارنتها بجواسقها الموسيقية، وصفوف أنوارها، بما في حي الشانزليزيه البعيد.
وتبعاً لرينو فمن المألوف أن توجد قرب أحد مجاري الماء التي تخدد المدينة المقاهي أشبه بخلوات. وبعض هذه الخلوات أشبهُ بحدائق صغيرة تمد عريشةٌ ضخمة فوقها سقفاً من الخضرة، مدعوماً بداليتين متشابكتين بعمود معقوف. وتحيط بالنهر الذي تحاذيها أشجار الجنبة، وأدغال من الآس وأشجار الصفصاف والحور القزمة. وأُعِدّ جوسق من الساقية يسرح البصر منه في تعرجات النهر وسط البيوت والحدائق. وغالباً ما يهدر الخرير البعيد لشلال صغير أحلام المدخنين.
ويشير ميشو وبوجولا إلى أن " المقاهي الأكثر ارتياداً وإشراقاً هي مقهى الورود ومقهى النهر ومقهى باب السلام. وهذا الأخير تحيط به ثلاث أسواق، وتظلله أشجار صفصاف كبيرة. وهو مصدر بهجة لأهل دمشق. وفيه يجتمع كل يوم أكثر من مئتي شخص يأتون ليدخنوا النراجيل ويشربوا الشراب المحلى والمعطر، ويلعبوا الشطرنج على مصاطب أو مقاعد مرتفعة، وعلى خرير الماء، وفي ظل أشجار الصفصاف، أو ظل البُسُط المرتفعة".
وذكر لاروتي حاجي هذه المقاهي الثلاثة، وأطنب في ذِكر الخضرة في مقهى باب السلام وأشجاره: " إنه مظلَّل بأشجار الجمّيز (توت فرعون) والحور والصفصاف والدلب المختلطة بشجيرات الورد وأُصُص الزهور ".
ويصف فيري مورنر بكثير من الظُّرف مقهى قرب باب السلام يرتاده الناس بكثرة، ويزعم أن ارتياد هذا المقهى خطير جداً لمن لا يُحسن السباحة. ففي حين يزمجر النهر حولك وتحتك كشلال فإن الألواح التي تمشي عليها أو تجلس فوقها ليست متينة.
وذكر مسافرون آخرون كذلك هذه المقاهي التي تتوضع على ضفاف بردى بكلمات أقلّ إثارة للشعور. وتبعاً لروبنسون فإن "المقاهي في المدينة الشرقية تعدّ من المنشآت التي تلفت النظر أكثر من غيرها. وهي في دمشق كثيرة وأنيقة، وأغلبُها على هيئة جواسق. وهي عموماً تقع على ضفة ساقية تطلّ على شلال جميل، ورياضٍ وحدائق على الضفة المقابلة.
ويشير ويلسون إلى مقهى يقع في جزيرة صغيرة محاطة بالنهر. ويذكر بورتر مقهى كبيراً يقع قرب باب الفرج، تُشرِف أرصفته على النهر، وتمتد منه العين في منظر جميل حتى الجدار الشمالي للقلعة.
ويعيد لامارتين إلى الذهن "المقاهي المبنية على ضفاف السواقي التي تجتاز المدينة ". ويلاحظ هوارت مقهى على ضفة النهر محاطاً بأشجار كثيفة.
تُظهِر أوصاف الرحالة الغربيين هذه في القرن التاسع عشر أن مجاري الماء كانت تؤلف عنصراً هاماً في توضُّعِ مقاهي دمشق. ويشير إلى هذا التقليد أيضاً بوكوك، وهو رحالة من القرن الثامن عشر، فهو يلاحظ في مناسبة حديثه عن أحد هذه المقاهي الواقع على ضفة بردى، قرب جزيرة مزروعة بالأشجار، أن المكان مجهز بطريقة مدهشة، ويُعدّ من أكثر الأماكن متعة وسط مدينة كبيرة. ويذكر موندرل في القرن السابع عشر مقهى يتسع لأربعمئة شخص أو خمسمئة. وكان قسمه الصيفي على جزيرة صغيرة مظللة وسط بردى، ويحيط به تيار مائي كبير. ويورِد رحالة آخرُ سبق موندرل هو تيفينو، وشهادته مماثلة له، إذ يتحدث عن المقهى القريب من باب السراي قرب جسر على النهر، ويحاذيه نهر آخر. وتمتد الأشجار على الجانب الآخر. وفي ظلها يستمتع أولئك الجالسون على المساطب بالانتعاش وبمنظر النهر الجاري أمامهم. ومقهى النهرين جميل وكبير، إذ أن نهرين يمران ويشكلان عند نهاية صالة كبيرة مسقوفةٍ جزيرةً صغيرةً ملأى بشجيرات الورد ونباتات أخرى، تمتّع بخضرتها وتنوع ألوانها، ورائحة ورودها أكثر من حاسة معاً، وتُضفي مزيداً من الرضا على موقع هو ممتاز في الأصل.
وإذا كانت المقاهي مصدر سرور لعموم الناس فالمياه تمثّل في نظر الطبيب لورتي القادم من ليون تهديداً لصحة الناس الذين يقضون وقتاً طويلاً قربها، يقول: " إن في كثير من أحياء المدينة حدائق عامة وسْطها مقاهٍ تُضاء إضاءة مبهرة كل مساء، وهي مظللة بأشجار كبيرة تخترقها سواقٍ صافية. ولكن مهما بدت للرحالة الأوربي ممتعة فإنه يجب ألا يقيم فيها لأي سبب كما يفعل كثير من الأجانب لأنه تسبب الحُمّى برطوبتها، وهي غيرُ صحية، ولا يجوز البقاء فيها مدة طويلة في الليل، والأهمُّ من هذا عدم النوم فيها".
وبالإضافة إلى ما سبق كانت المياه تسبب كوارث حقيقية؛ ففي عام 1098 ه = 1686 – 1687 م مثلاً، حدثت فيضانات قوية في دمشق جرفت مقهى المقصف، أحد أشهر مقاهي النزهات في المدينة. وتضرر أيضاً مقهى المناخلية الواقع في شمال القلعة في الخامس من محرم 1160 ه = أواسط كانون الأول عام 1746 م بفيضان ارتفعت المياه خلاله إلى مستوى حافة النهر.(8)
وكانت مقاهي دمشق تقدم متعة الماء لروادها وإن لم تكن على ضفاف النهر، وذلك في هيئة أحواض داخلها، ويصفها رينو بأنها "تشبه صالونات مبلطة عريضة مزينة بحوض رخامي كبير"،وهذا ما يلاحظه تيفينو في مقهى السنانية " المسمى بالمقهى الكبير لامتداده الطويل، والذي يخلب الألباب بينابيعه المنبثقة التي تُرى في أحواض كبيرة". وكانت هذه التجهيزات تساهم أحياناً كما يشير بوكوك في إيجاد إطار ممتع لروّاد تلك المنشآت.
مقاهٍ وحمامات وحلاقون ومساجد في المدينة:
ويذكر بعض الرحالة مثل بورتر ولامارتين ولالمان بإيجاز وجود مقاهٍ في قلب المدينة. وإذا كانت تلميحاتهم تعطي قليلاً جداً من التفاصيل عن هذا النمط من المنشآت فإن وثائق المحاكم الشرعية وصكوك الترِكات والشراء والاستئجار المتعلقة بالمقاهي تزودنا بالمقايل بمعلومات أكثر دقةً. إن حوالي ثلاثين مقهى منها يقع داخل النسيج العمراني، وكان ثلثها وقفاً كما تدل وثائق المحاكم الشرعية، إضافة للمعلومات المعروفة سابقاً.
كانت هذه المقاهي عموماً أقلّ اتساعاً من تلك التي وصفها الرحالة. والواقع أنها، كما في القاهرة، حصيلة تجهيز حوانيت، وتوسعيها توسيعاً طفيفاً جداً. ذُكر منها مقهى في حي الميدان من قِبل شخصين من أسرة الموصلي يمتلكان حانوتين على الجانب الشرقي للشارع المركزي، فقد سمحا في محرم 1163 ه = 1749 م لمستأجرٍ بتحويلهما إلى مقهى.
وتشير وثائق المحاكم الشرعية إلى نوعين من المنشآت: المقاهي (قهوة خانة) والحوانيت المعدَّة لتحضير البن وبيعه. والأوصاف المجملة المتاحة لنا تقتصر على بضع كلمات تشير إلى العناصر نفسها في الأنموذجين. وبهذا فمن الصعب التمييز بين الحانوت والقهوة خانة. وهذا التمييز أقل وضوحاً كذلك في نص الوثيقة نفسها لأن المصطلحين يستعملان أحياناً لتعيين المنشأة نفسها. (9) ولكن يحدث أحياناً أن القهوة خانة والحانوت متلاصقان كما لو أن هناك تكاملاً بين هذين النموذجين.(10)
وإذا كانت الوثائق بقليل من المعلومات عن عمارة هذه المنشآت فإنها تزوّدنا بالمقابل بما هو أكثر بقليل من التفاصيل المتعلقة بالجوار. إن عدداً منها لا بأس به يقع قرب مساجد (11) وحمامات(12) أو محلات للحلاقة (13). وتساهم هكذا في تجميع الألفة الذكورية في مركز المدينة. وتبعاً للاروتي حاجي (14) فإن " ما يميز الشرقَ أفضلَ من غيره هو المقهى ودكان الحلاقة"، وهذا التكامل بين الأماكن العامة المختلفة يمكن أن يؤدي إلى تشابك الوظائف كما يتبين من هذه الملاحظة التي لاحظها تروتينيون : " لا يندر أن تجد على كرسي في زاوية ما زبوناً مقوَّس الظهر، ماداً رأسه إلى الحلاق لأن القهوجي التركي يزاوج بطيبة خاطر بين مهنة الحلاق ومهنة القهوجي". ومن المعروف أن زُبُن الحمامات يتناولون القهوة بعد الحمام في صالة خلع الملابس الاستراحة (البرّاني). وكذلك إذا كان يشار أحياناً إلى أن القهوة مجهزة في داخل الحمام ويقدمها مستخدم خاص فإنه يمكن تصوُّرُ بعض الحالات التي يكون فيها تكامُلٌ بين حمام ومقهى مجاور.
الأثاث والأدوات:
نجد في ما كتبه ميشو وبوجولا وصفاً لِما في داخل المقاهي: " صالات واسعة مبلَّطة بالحجر الأبيض أو الرخام، عقودُ قبابها مدعومة بالأعمدة، وأرائك دائرية بين الأعمدة، وأحواض من الماء محاطة بالنراجيل على شكل تاج، وكُوَّة واسعة غيرُ نافذة يحضَّر فيها الشراب العربي اللذيذ، ومصاطب مغطاة بالحصر أو السجاجيد. هذا هو الأثاث، وكذلك ما في داخل مقهى دمشقي".
ويمر لاروتي حاجي على ذِكر هذه الأشياء قائلاً: " يتكون الجزء الأساسي للمنشأة من صالات واسعة ببلاط رخامي مع عَقد مدعوم بالأعمدة التي تصطف بينها الأرائك. وتحيط المصاطب بجدران الصالات. وهي غالباً مغطاة بالسجاد الأنيق، أو بحُصُر بسيطة. والنراجيل المتوضعة على شكل تيجان حول أحواض مملوءة بالماء في خدمة المدخنين دائماً".
ويلاحظ روبنسون من جهته أن أريكة واحدة نُصِبت على امتداد الحائط الداخلي، ورُتِّبت حولها مساند يتكئ عليها روادها".
ويشير لورتي أخيراً إلى أن " الحدائق مزوَّدة بمصاطب تستند على أوتاد ترتفع مترين عن الأرض، وعليها يتمدد الدمشقيون مسترخين للتدخين واحتساء القهوة".
وترشدنا حوالي خمس عشرة وثيقة شراءٍ تخصّ التجهيزات المادية لهذه المنشآت المؤسسِ أغلبها في بداية القرن التاسع عشر إلى الأثاث والأدوات التي يمكن وجودها في المقاهي.(15)
وتتألف مفروشات المقاهي أحياناً من أنواع مختلفة من البسط والسجاجيد (بساط، حصيرة، لبّاد، سجادة،طنفسة)، ولكن هذه الكلمات لم تُذكر إلا في نصف الحالات. ويقتصر عددها على ثلاثة أو أربعة في كل منشأة. أما الكراسي أو المقاعد بلا مساند فهي مذكورة في كل الحالات. ويمكن أن يدل عددها على حجم المنشأة التي كانت فيها. وبعضُها مثل مقاهي دار السعادة والدرويشية وقنوات كان يحتوي على مئة منها تقريباً.
وبالإضافة إلى المساطب المستديرة الملصقة بالجدران الداخلية أو الخارجية للمقاهي والمذكورة في الوصف العام للبناء وليس في قائمة الأثاث، هناك في بعض المنشآت أرائكُ (ديوان) وسط الصالة، وهذه هي الحالة في مقاهي تحت القلعة والدرويشية وخان السلطان، وصناديق من الخشب لا يُعرَف محتواها تكمِّل عموماً أثاث هذه المقاهي التي تنار بقناديل زيتية معلقة في السقف.
وتُذكر النراجيل أكثر من غيرها بين الأدوات في بند الكراسي نفسه. ويمكن أن تكون دليلاً على أهمية المنشأة. ويحتوي كل من مقهى الدرويشية ومقهى قنوات، ومقهى دار السعادة على مئة كرسي وعشرين نرجيلة. وهذه المقاهي الثلاثة هي الأهمُّ بين المقاهي المذكورة في الوثائق القضائية التي يستند إليها بحثُنا. ولا تَظهر الفناجين إلا في نصف الحالات، ودلالتها على أهمية المنشأة صعبة، ربما بسبب عادات تناول القهوة التي تقدَّم بأداة مزوَّدة بمقبض وفم للصب (إبريق – دولة)، ويُقدَّم الفنجان نفسه لأكثر من زبون كما هي الحال اليوم. وأخيراً تستخدم موازين للقهوة.
زُبُنٌ من نوعيات خاصة:
يلاحَظ من الرحالة الغربيين كما يشهد على ذلك لامارتين أن المقاهي تجمع وجهاء المدينة: " إنهم الأغوات الذين يرتدون عباءات قرمزية طويلة من الحرير، مبطّنة بفرو السمور، بسيوفهم وخناجرهم المرصعة بالجواهر، المحزومة إلى أوساطهم، يتبع كلاً منهم خمسة أو ستة من حشمهم، خدماً أو عبيداً. يمشون صامتين وراء السيد حاملين غليونه ونرجيلته. يذهبون ليُمضوا جزءاً من النهار على الأرائك الخارجية للمقاهي المبنية على الجداول التي تخترق المدينة، وأشجار الدلب الجميلة تظللها. هناك يدخنون ويتسامرون مع أصدقائهم. وهذه هي الوسيلة الوحيدة للتواصل بين سكان دمشق بالإضافة إلى المساجد.
ويقدم دوفوغي المقاهي الدمشقية كصالات واسعة تحت قباب منخفضة مضاءة بقناديل مدخّنة معلقة بفروع الأشجار. وعلى الأرض الممهدة بُسُطٌ ومقاعد تنتظر عموم الناس، في حين أن الذين يترفعون عن الاختلاط بغيرهم، وأصحابَ المناصب يصعدون مسطبة دائرية تشرف على علو قدمين أو ثلاثة عن الأرض. ولا يُعلَم إن كان هذا الوصف ينطبق على كل المقاهي. ولكن من المعلوم بالمقابل أن بعض المقاهي كانت ترتادها طبقات اجتماعية خاصة، توحِّدها رابطة عرقية أو مهنية واحدة.(16)
وكما في القاهرة، حيث تبدو المقاهي من تسميتها أمكنةً يرتادها المزاولون مهنة معينة، كبائعي الخيش (قهوة الخيشيين)، وقهوة الخراطين، وقهوة العلبيين، فإن بعض منشآت دمشق تبدو من تسميتها مطروقة من أصحاب مهنة معينة، كاللحامين، والنجارين، والحماميين (مربي الحمام) والقمّاحين (17)، حتى إنه كان في إستانبول مقهى معروف كمكان للقاءِ شهود الزور الذين يمكن شراء ذممهم بمبلغ معين طوال النهار. (18)
والمقاهي التي كان يرتادها العسكريون، وهي موجودة في حلب أيضاَ، أماكنُ استراتيجية في الخصومات التي تندلع بين الأطراف المتعادية. وهكذا ففي عام 1083ه =1672 -1673م انفجرت شجارات بين السكمانية والإنكشارية في مقهى بحيّ السكرية، وكذا في عام 1220ه = 1805 – 1806 م هاجم الإنكشاريةُ المحليون (اليرلية) الإنكشاريةَ التابعين للسلطان (القبوقول) بعدما حفروا ممراً يمتد من مقهى السكرية (ربما كان المقهى السابق نفسه). وتورطت أحياناً مجموعات عرقية خاصة في الخصومات العسكرية، ففي شهر شوال 1161 ه = 1748 م شنّت قوات الحاكم (القبوقول والدالاتية والتفنكجية) هجوماً على الدروز المجتمعين في مقهى بضاحية الميدان. وهاجمت كذلك في بداية شهر رمضان 1163 ه = بداية آب 1749 م قواتُ الحاكم (البغادة والموصلية والتفنكجية والقبوقول) مقاهي يرتادها الأكراد. (19)
وهكذا فلكل مقهى مجموعات خاصة من الزبن تضفي عليه سمات خاصة؛ إما مكانَ استراحة،وإما مكانَ فجور.
وكانت بعض الشخصيات تشرِّف بوجودها هذه المنشآت. ومن هذا القبيل ما يشير إليه البديري من أن الشيخ إبراهيم الجباوي شيخ الطريقة السعدية (توفي عام 1170 ه = 1756 م) برهن عن تواضع عظيم " لأنه كان يرتاد المقاهي ". وتجعلنا هذه الملاحظة نُخمِّن السمعة السيئة لبعض هذه المنشآت. إن تناوُل القهوة كان أحياناً بالإضافة إلى ما سبق، موضوعاً لمعايير سياسية وتقويمات أخلاقية حتى منتصف القرن الثامن عشر. وفي هذا السياق يشير البديري إلى أن حاكم دمشق أسعد باشا العظم أمر في بداية رجب 1162 ه = منتصف حزيران 1749 م بأن تُسحب من المقاهي والأسواق مادة ليست طبيعتها محددة، ولكن يمكن أن تكون القهوة أو التبغ، وهدد بالموت من يتناولها لأنها من أعظم المصائب؛ فالرجال والنساء، بل الشباب يتناولونها. وسبق هذا الأمرَ أمرٌ آخرُ في جمادى الأولى 1123 ه = حزيران – تموز 1711 م يمنع التدخين في الأسواق. غير أنه لم يكن لهذا الأمر فائدة على ما يبدو، فبعد بضعة أشهر، أي في ربيع الأول 1163 ه = شباط 1750 م، وفي خلال جولة في جوار المرجة والتكية السليمانية يلاحظ البديري أن النساء الجالسات على ضفاف بردى يتناولن القهوة والتبغ كالرجال، بل أكثر منهم! وكذلك في عام 1222ه – 1807 -1808 يمنع حاكم دمشق كنج يوسف باشا السكان من التدخين خارج البيوت، ويمنع السهر في المقاهي والعروض الموسيقية فيها.
ويلاحظ وجود المومسات في هذه المنشآت خلال أواسط القرن الثامن عشر. وفي الثالث من جمادى الأولى عام 1154 ه = 17 تموز 1741 م يأتي عدد من سكان حيّ الأخصاصية قرب مسجد الدرويشية إلى المحكمة ليشكوا من أن المقهى الواقع في هذا الحي يرتاده الفُسّاق والشاذّون جنسياً، فيأمر الحاكم بإغلاقه فوراً. ويضاف إلى هذا أن بعض أهل دمشق لهم تقويمات سلبية لارتياد بعض مقاهي مدينتهم. وفي مرجع من القرن التاسع عشر يتطرق إلى موضوع الأخلاق،يقدّر أن الناس الذين لهم بعض الشهامة والعقل لا يدخلون المقاهي لأن هذه المؤسسات تؤوي مجموعات من الأسافل والأرذال.
تناول القهوة والتسليات:
إذا كان الرحالة الغربيون يجهلون القضايا الاجتماعية التي كانت تتبلور في مقاهي دمشق فإنهم يُعْلموننا بالمقابل بالمنتجات التي كانت تُستهلك فيها، والتسليات التي تعرض فيها.
التدخين:
يلفتُ تناوُل التبغ في أدوات (شيبوك وغلايين ونراجيل وشوشة وجوزة) بشكل خاص اهتمام الرحالة. وملاحظات لارومي بهذا الصدد موجزة غالباً: يُشعل الشيبوك ويُدخَّن رواد المقهى على طاولات صغيرة محاطة بأرائك ثقيلة. ويلاحظ فوغي أن الجميع يمصّون بصمت الغليون المؤلف من ساقين من القصب مطبقين على زاوية حادة تنغرسان في بيضة معدنية أو خشبية، ويحتسون معه فناجين لا تُحصى من القهوة. وينكبّ آخرون مثل رينو على وصفٍ مفصَّل جداً لهذه الأدوات: " يتربع العرب على الأرائك ممسكين بين السيقان المتصالبة هذه النرجيلة الأنيقة التي تحمل الاسم الخاص " شوشة ". لا تتألف الشوشة مطلقاً كالنرجيلة التركية من إناء زجاجي تتشابك حوله الطيّات الطويلة للخرطوم المرن (البربيش) كحلقات الحية؛ فبنية النرجيلة اللولبية أنيقة وخفيفة تذكّرُنا بالخطوط الأصلية للفن الإسباني المغربي، وحل محل الحوجلة الزجاجية جوزة هند يرتبط بها أنبوبان أحدهما عمودي والآخر مَحنيّ. ينغمس الأنبوب العمودي مرفوعاً قرابة قدمين ونصف في مستودع الماء الخشبي المحفور، ويحمل كأساً من النحاس ذات فوهة واسعة حيث يحترق التنباك. أما الأنبوب الآخر فهو قصبة مدهونة بالأحمر، وتستعمل لامتصاص الدخان.
وهكذا فإن ملاحظات روبنسون دقيقة " إن الغليون المستخدم في دمشق، باستثناء الجوزة، نوع من النرجيلة لا يختلف عنها إلا بأنها أسهل حملاً. ويتألف من قشرة جوز الهند التي تحبس الماء الحار، وتثبَّت بها قصبة مستقيمة طولها حوالي ثماني عشرة بوصة، يوضع فوقها التنباك والفحم المستعمل. وهذه القصبة العمودية يمسك بها المدخن في حين أن الدخان المرطَّب بمروره عبر الماء يُستنشَق عن طريق خرطوم مشابه يمتد من الكرة إلى الفم. وتُصنع القصبات والكأس نفسُها أحياناً من الفضة، وتحفر حفراً.
الموسيقى والرقص:
تُسلّي الموسيقى والرقصُ والحكاياتُ والدمى (دمى العرائس) بالإضافة إلى التنباك روادَ المقاهي. ويلاحظ لاروتي أنه،أحياناً، ورغم هذا الخمول الطويل، هناك تسلية بمغنين متجولين وراقصات أو رواة تبعاً لرينو. "وبينما يتنشق العرب عطر التنباك عبْر ماء الشوشة، يُصغون إلى حكايات حكواتي بلغة مجازية! ويأتي الموسيقيون العرب من حين لآخر ليُضفوا جواً ساحراً على استراحة المدخنين. وأحياناً يتنشط المشهد برقصات متألقة تؤديها راقصات (عوالم) جميلات بملابس زاهية.
ويبدو آخرون غير متحمسين كثيراً للموسيقى الشرقية؛ فلارومي يشير إلى أنه في المساء تُعزف موسيقى عربية تحت أشجار الدلب ذات صرير وخُنة. ويبدو دوغوفي أقسى: " يُصغي عشاق الموسيقى إلى أوركسترا وحيدة النمط مؤلفة من دربكة ونوع من الربابة وسلسلة من الحبال المشدودة على طاولة (قانون) تكرر إلى الأبد الأنشودة الوحيدة الرتيبة. ويرافق الموسيقى مغنّون على هذا اللحن الأساسي الذي يمتلك الشرقيون سره. ويحكون على أنغام اللحن السوداني قصص الحب والمعارك ومآسي الصحراء.
الحكواتي:
يؤكد ميشو وبوجولا أهمية دور الحكواتي في مقاهي دمشق: " لا شك أنكم لم تسمعوا عن الحكواتية العرب. إنهم نوع من التروبادور[ الشعراء الجوالين في أوربا] المسلمين، شعراء السيرة الشعبية والذكريات العجيبة. في مقاهي دمشق يمكن أن يصادَف الرواةُ الأمهرُ بين هؤلاء ". ويلاحظان كذلك " اندفاع المسلمين إلى الاستماع إلى هذا النوع من الحكايات".
أما لاروتي حاجي فالحكواتي عنده " يبدو للمسلمين كما كان يبدو الشاعر الموسيقي في أوربا. إنه شاعر ارتجالي يعلّم السيرة الشعبية التي يرويها ويرتبها على طريقته مازجاً إياها بالذكريات الأكثر إدهاشاً، ويعرف كيف يبهج خلال ساعات فضول العديد من المستمعين. إن الحكواتية في الشرق يُصغى إليهم بانتباه ديني ".
كراكوز:
إذا كان دوفوغي يكتفي بالإشارة إلى أن " عشاق العرض [ المسرحي ] يتابعون الحركات والأحداث البذيئة التي يعقَّب عليها بدعابات خطيرة من قِبل أكثر من " كراكوز " يتوضعون في زوايا القلعة فإن تريتنيون يفضِّل هذا النوع من العروض قائلاً:" في المقاهي تقدَّم تمثيليات كركوز مساء... وكركوز نوع من المهرج التركي، شرِهٌ، سِكِّير، لصٌّ، شبِق، وبذيء بشكل مريع. يقتحم أبواب الحريم، ويعتدي على الشرطة والخِصيان والأزواج، ويلهو لهواً صاخباً بألف بذاءة وقحة، وبمآثر الحب والفسوق بطريقة مستحيلة السرد حتى باللاتينية. الديكور بسيط بساطة مدهشة، ويذكِّر بمسرحيات الظل الصينية الصغيرة؛ فوسْط ستار داكن مشدود إلى زاوية حائط ترتسم حلقة من القماش الأبيض مضاءة بقنديل مدخّن. وعلى القرص المضيء دمى ملونة شفافة كأضواء المصابيح السحرية تُناور وتتقافز ثم تختفي عنيفة مرتجّة عابسة مُضحكة. وكما عند غينيول فإن صوت مدير المسرح يحركها من الوراء جدّيّةً حيناً ومزمِّرةً حيناً، ضاحكةً أو متباكيةً، ويشرح مدير المسرح إيماءاتها ". ويشير تروتينون بالإضافة إلى ذلك إلى الخاصّية المتنقلة لهذا النشاط. فيلاحظ في الحقيقة أن " راوي كراكوز فكّك كوخه بسرعة وحزم دُماه التي سيعرضها في مقهى آخر".
أصحاب مقاهٍ على علاقة بالعسكر:
إن مكانة هذه المنشآت في الحياة الاقتصادية يمكن أن تؤطّر بالتحقق من الأشخاص الذين استثمروها.(20) والمعلومات المودَعةُ في وثائق الترِكات تسمح لنا أن نجد موقع هؤلاء المالكين في السلم الاجتماعي.
وبين السجلات الخمسة للتركات التي جُرِدت في نطاق هذه الدراسة ثلاثةٌ صدرت عن القسمة العربية(21)، واثنان من القسمة العسكرية (22). وقد أودعت الثلاث عشرة وثيقة التي وُجدت من تركات مالكي المقاهي في القسمة العسكرية بين 1174 – 1184 ه = 1760 – 1770، وستٌّ من هذه الوثائق تخص عسكريين، وسبعةٌ تخص مدنيين كان لهم صلات يبقى تحديد طبيعتها مع بعض العسكريين الذين ربما كانوا يستطيعون مثلاً تأمين حمايتهم. (23)
تتدرّج تركات أصحاب المقاهي التي درسناها بين 38.5 و2175.5 قرشاً بمعدل وسطي يبلغ 982 قرشاً (24). والقيمة الإجمالية تتضمن ثروات عقارية وديوناً هامة. فأصول تركة " سيد العارفين" تصل إلى 1600.75 قرشاً. والقيمة الإجمالية لديونه ترتفع إلى 5159.5 قرشاً. وكان هذا الشخص يملك إلى جانب جزء من الدار ثلثي مقهى، وأرضَ دار (حَوش) تقع كلها في حي الميدان. وخمسة عقارات أخرى موزعة على قرى دوما وجديدة والزبداني.
ويجب أن يشار إلى تركة محمد آغا التي تتضمن بناء مقهى وتجهيزاته (كَدَك) في سوق الصوف. وداراً ومشغلين للنسيج في الحي نفسه، وتصل قيمتها إلى 2175.5 قرشاً. وتركة الحاج أحمد بما فيها الديون تفوق الـــ 2000 قرشاً، ولكنها لا تتضمن عقارات. وكان هذا الرجل على علاقة بمقهى يقع في سوق الدقاقين.
أما التركات الأربع التي تتراوح أصولها بين 1000 و1500 قرشاً فتتضمن قليلاً من الأموال الثابتة باستثناء تركة أحمد بشه الذي كان يمتلك نصف تجهيزات مقهى يقع في حي العمارة، وحانوتاً وثلثي دارَين، تقع جميعها في الحي نفسه، وداراً داخل القلعة، وداراً وأراضي ومزروعات في قرية حرستا.
والتركتان المحصورتان بين 600 – 700 قرش هما لــ "سيدين" (من سلالة النبي) ولكل منهما خصوصيته؛ فالأولى التي للسيد مصطفى بن السيد أحمد العجلاني ناقصة، ومع ذلك تتضمن كثيراً من الثروات الواقعة في حي الميدان: مقهى وحَوشين وحانوتين ودارين وبعض أشجار الفاكهة. وخصوصية التركة الثانية التي للسيد أحمد بن يوسف بشه تكمن في أنها تتألف بكاملها من بيع أموال ثابتة قيمتها مُثبَتة. وهذه الحالة نادرة في هذا النوع من الوثائق، وهي سبعة حوانيت وحَوش ومَصبنة تقع في باب مصلى. وكان المرحوم يملك حصصاً منها.
ويملك خليل بشه الذي قائمة ترِكتِه منخفضة نسبياً (117) قرشاً داراً في حي باب السريجة. وكان مساهماً في نشاطات اقتصادية مختلفة كلها في حي الميدان، حيث كان يملك مقهى وفرناً وثلاثة حوانيت.
وتركة أحمد بشه، رغم أنها أعلى من سابقتها (342.75 قرشاً) تتضمن أموالاً ثابتة أقل. فبغضِّ النظر عن بناء مقهى قنوات وتجهيزاته،لم يكن يملك إلا عمارة سكن في الحي نفسه.
وأخيراً فإن الشخصين اللذين ثروتهما أقل أهمية، وهما محمد بشه والحاج درويش، لم يكن كل منهما يملك إلا جزءاً من تجهيزات مقهى: الأول في الصالحية، والآخر في المناخلية. وهذان الشخصان يمكن اعتبارهما ممثلَين للمالكين الأقل حظاً. وهذا غريب إلى حد ما في حالة الحاج درويش الذي يمكن متابعة مسيرته عبْر كثير من الوثائق.
الحاج درويش:
في 19 جمادى الثانية عام 1195= 9 تموز 1746 يشتري الحاج درويش لحساب ابنه عبد الرزاق الذي ما يزال قاصراً نصف تجهيزات مقهى باب جيرون. ويستأجر في اليوم نفسه، وبنقود ابنه أيضاً بصفته وصياً عليه، نصف المقهى. وبعد ثلاث سنوات، أي في 8 من ذي الحجة عام 1162 ه= 19 تشرين الثاني 1749 م يستأجر عبد الرزاق الذي صار بالغاً المقهى بكامله، وكذلك الموقع المقابل له المسمى بــ " مصيف". وربما كان ما عناه بناء ملحقاً بالمقهى يستخدم صيفاً. وبعد عام ونصف، أي في 15 جمادى الثانية عام 1164 ه = 11 أيار 1751 م يستأجر الحاج درويش أحد عشر حانوتاً معدّة لتحضير القهوة وبيعها، تلاصق الجامع الأموي، ومن أوقافه. وقد جُدِّد عقد إيجار هذا بعد عامين ابتداء من 25 ذي الحجة 1166 – 23 تشرين الأول عام 1753 م لمدة ست سنوات. إن تركة الحاج درويش المحضَّرة في نهاية ربيع الثاني 1176 ه = منتصف تشرين الأول 1765 م تُعلِمنا كذلك أنه كان يملك أيضاً تجهيزات مقهى يقع قرب القلعة في حي المناخلية.
ورغم كثرة التوظيفات المحققة في المقاهي، وخلال أعوام كثيرة، فإن قائمة ميراث الحاج درويش خصوصاً منخفضة (43.5) قرشاً. وقبل أن نستنتج سبب انخفاض مردود هذا النوع من النشاط يمكن أن نفترض أن التركة التي نحن بصددها غيرُ كاملة. ومهما يكن فإن مسيرة الحاج درويش تؤلف مثالاً مهماً للخصوصية في مجال المقاهي الدمشقية، تلك الخصوصية التي ربما أعطت الحاج درويش لقبه " المحمِّس".
استنتاج:
من مقهى صغير في الحي ترتاده جماهير صاخبة، إلى منشآت كبيرة على ضفة نهر بردى تستقبل وجهاء المدينة. تتميز مقاهي دمشق إذن بتنوعها.
ورغم القيم المختلفة لتركاتهم فإن أصحاب المقاهي في دمشق يؤلفون طبقة خاصة إذا قُيِّموا حسب الإجراءات القضائية السارية وفق القسمة العسكرية، فهم إما عسكريون، أو لهم صلات بهم.
ويتجلى دور العسكريين في مجال القهوة في صُعُد مختلفة. فكثير من الوثائق يشير إلى مساهمتهم في تجارة هذا المنتج في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وتؤلف الضرائب المرتفعة على القهوة والمقاهي في بداية القرن الثامن عشر جزءاً مهماً من عائدات الإنكشارية المحليين. وفي منتصف القرن الثامن عشر يستفيد الإنكشارية دائماً من جباية ضريبة هذا المنتج. ونلحظ هذه الظاهرة نفسها في القاهرة حيث تحتكر الفرقة العسكرية المسماة" وجاق المتفرقة" طحْن القهوة في نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، وكذلك ضريبة المقاهي يحتكرها في هذا العصر الإنكشارية الذين يأذنون باستثمار المنشآت ويومِّنون لها الشرطة الداخلية.
ويُلحَظ هذا التأثير القوي للعسكريين على المقاهي الدمشقية كذلك في وثائق الشراء المتعلقة بالمنشآت نفسها أو بتجهيزاتها التي تحتوي عليها. فالواقع أن عدداً كبيراً من الصفقات نفذها عسكريون أو أشخاص من أقربائهم، حتى زوجاتهم اللواتي كنّ بنات عسكريين، أو ينتدبن عسكرياً ممثلاً لهم. ورغم الحرب الكلامية التي كانت لا تزال تصاحب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تناوُل القهوة فإن نساء،بل قاصرين وبنات وغلماناً،كانوا يستثمرون أمالهم في مجال كان يمكن الحفاظ على الأخلاق الحسنة بعيداً عنها. ويمكن أن يقال هذا أيضاً عن الشخصيات التي كانت تمارس مسؤوليات إدارية (25) وعن المقربين من السلطة.(26)
وأخيراً، وتبعاً لكارلييه فإن ثلاث مدن أعطت لهذا المكان الجديد المخصص للألفة، كلٌّ وزْنها: مكة والقاهرة وإستانبول، وتُظهر أبحاثنا أن دمشق ربما تستحق أن تُذكر بينها.
الحواشي:
ملاحظة من المترجم: الحواشي كلها للكاتبة. واستغنيت عن بعضها مما لا يهم القارئ أو لا يستطيع بلوغه من مصادر أجنبية.
- مجلة " دراسات تاريخية " السنة الثانية والعشرون العددان 79 – 80. أيلول – كانون الأول 2003. والكاتبةُ باحثة في المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق. نشرت دراسات باللغة الفرنسية حول حي الميدان بدمشق. في الفترة بين 1740 – 1830 م. وهي موضوع أطروحتها للدكتوراه في جامعة بروفانس في فرنسا، بإشراف الأستاذ الدكتور أندريه ريمون.
1-في موضوع هذه الحرب الكلامية انظر " الأرناؤوط 1992) و"دوغيلهم "1993. وفيما يتعلق بمصر انظر ريموند 1995.
2-هذه السجلات محفوظة في دمشق، مركز الوثائق التاريخية السورية.
3- يشير بوجولا وميشو إلى وجود 122 مقهى عام 1830. وإلى أقل من 110 في سبعينيات القرن التاسع عشر.
4-الأرناؤوط 1992.
5-لبديري 1959. ص 80.
6-م. س. ص 190.
7-القساطلي 1876 ص 109.
8-البريدي 1959 ص 86.
9-وهذا هو وضعُ المنشأة التي تحدثنا عنها قبل قليل في حي الميدان، وهو أيضاً وضع المنشآت الواقعة في " تحت القلعة " وقبيبات ودقاقين وسوق ساروجة.
10-هناك مثالان لهذا التكامل بين القهوة خانة والحانوت، أحدهما في باب القلعة، والآخر في سوق القاضي.
11-مقهى باب جيرون المعروف بمقهى النوفرة بسب النبع الذي يزينه، يقع قرب المسجد الأموي. وهناك في سوق الصوف مقهى قرب مسجد سيدي هاشم. وقرب مسجد درويش باشا مقاهٍ كثيرة. وغرب القلعة مقهى ملاصق لمسجد يلبغا، وآخر مقابله.
" مقهى باب جيرون مقابل حمام الذهبية. وفي حي مسجد درويش باشا مقهى ملاصق لحمام الملكة. وفي سوق ساروجة مقهى ملاصق لحمام الجوزة.
13-هناك محلات حلاقة مشار إليها قرب مقهى باب جيرون،ومقاهٍ تقع قرب مسجد درويش باشا، وحانوت واقع قرب القلعة.
14-يُدلّ عادة على هذه الأدوات بكلمة " كَدَك"(سوق الخراطين، دار السعادة، درويشية، قبر عاتكة، سوق الرادية، الصالحية، خان السلطان) وكلمتان " قيمة " في الدرويشية وباب السريجة. و" عُدّة " في تحت القلعة أقل استعمالاً. وتُضمّ كلمة " كدك " أحياناً إلى إحدى الكلمتين " قيمة " أو " عدة " لتعيين هذه الأدوات (درويشية، سنانية). ولكن على النقيض من هذا لا يُقدم أي من هذه الوثائق الكدكَ كحقٍّ في ممارسة أي نشاط خاص في مساحة معينة. وربما كان هذا المفهوم مدرَجاً ضمنياً في كلمة " كدك" التي تحدَّد فقط بأنها المعادِلة لكلمة " عُدّة " (العدة المعبَّر عنها بالكدك، سوق ساروجة).
15-إن الانتماء إلى جيل معين يمكن كذلك أن يكون معياراً للتمييز. وهكذا ففي مقهى الموصلي كان سلوك بعض شبان الحي يزعج المسنين، ولهذا قرر هؤلاء المسنون بناء مقهى آخر حيث كان يجتمع الكهول.
16 _القاسمي 1988 2/299
17-القساطلي 1876 ص109
18-تقرير القنصل الإنجليزي كامبيلي المؤرخ بعام 1836
19- البديري: يشير كذلك إلى حادث آخر في جمادى الأولى 1168 ه / بداية عام 1755 يتعلق بصاحب مقهى كردي قتلته زوجته وبعض السِّفْلة ص 184 – 185.
20 – هؤلاء الأشخاص الذين يُسمَّون " أصحاب المقاهي " يساهمون بطرق مختلفة في هذه المنشآت. فبعضهم يملك منها الأدوات، وبعضهم يملك البناء، ولكن لا يُعرف إن كانوا يمارسون بأنفسهم أي نشاط داخل المنشأة.
21 – " قسمة عربية " تعني القسم من المحكمة الذي يهتم بالقضايا الشخصية للمتوفَّين من المدنيين.
22 – " قسمة عسكرية " تعني القسم من المحكمة الذي يُعنى بقضايا العسكر: الخطبة والزواج والامتلاك والإعارة والميراث.
23- في ما يتعلق بهذه الظاهرة في القاهرة انظر ريمون 2/ 688- 692.
24- متوسط التركات المودعة في سجلي القسمة العسكرية المدروسين هو 1826 قرشاً. وهذا المتوسط محسوب اعتماداً على استطلاع أُجري على 153 حالة.
25 – اقتنى حسين أفندي محاسب الخزينة السورية (محاسبجي خزينة الشام) وابن مسؤول مالي (دفتر دار) بدمشق في 13 جمادى الأولى 1245 ه = 10 /11 / 1892 م محتويات مقهى يقع في خان السلطان.
26 – أسست أمينة خانم بنت سليمان باشا حاكم دمشق في الوقف في جمادى الثانية عام 1177 ه = كانون الأول 1763 م مقهى في الدقاقين. وأسست نفيسة خانم مولاة أسعد باشا حاكم دمشق السابق في الوقف في 26 جمادى الثانية 1178 ه = 21 كانون الأول 1764 م مقهى في سوق ساروجة مع تجهيزاته.