ملاحم النارت الشركسية
دراسة جادة ونصوص قيِّمة

مصدر الصورة https://aheku.net
"من لا قديم له لا جديد له" لهذا تُعنى الشعوب بجمع تراثها وحفظه واستخلاص العبر منه، تربط بهذا حاضرها ومستقبلها بماضيها، وتثبّت الخصائص المميِّزة لشخصيتها المتفردة.
والملاحم في التراث الإنساني كله تنتمي إلى مرحلة بداوة الشعوب. وهي على نحو من الأنحاء محاولة لتفسير الخلق تفسيراً يلحظ إنسانُ عصرنا افتقاره إلى التعليل العلمي والإقناع العقلي، واتِّكاءه على الرموز والغيبيات والقوى الخارقة.
ويكمن في هذا تحديداً جمال الملاحم وخلودُها؛ فالرمز مَعين لا ينضب، ومسرح رحب للخيال، ومتنفَّس للهموم.
وقد حاولت النزعة المركزية الأوربية أن تثبت في أذهاننا منذ أن قامت النهضة الأوربية متكئةً على الحضارة اليونانية، أنّ تاريخ الحضارة يبدأ من الإغريق. وتأثرتْ بهذه المقولة أجيال من المفكرين والمتنورين الذين نهلوا من حضارة الغرب. ورغم تصاعُد موجة من الاعتراف بوجود حضارات غيرِ حضارة الإغريق أضاءت وجه العالَم القديم حين كانت أوربا تعيش قرونها الحجرية إلا أن هذا الاعتراف ظل مشوباً بروح غير علمية حين يصل الأمر إلى تحديد هوية هذه الشعوب التي أقامت هذه الحضارات. وأحدث مثل هو محاولة الصهيونية العالمية في أيامنا هذه [ التسعينيات من القرن الماضي] ادِّعاء أن حضارة إيبلا حضارة يهودية رغم أن البراهين كلها تنفي هذا الزعم، وعلى رأس البراهين أن هذه الحضارة سبقت تماسك اليهود كشعبٍ بألف عام.
فإذا كانت العنجهية الأوربية تحاول التنكُّر لتراث الشعوب الذي وصل مكتوباً فكيف بالتراث الذي لم يُتَح له أن يُكتب، بل تناقلته الشفاه جيلاً بعد جيل. فليس من السهل على شعب صغير كالشراكسة انتزاعُ الاعتراف بأولوية ملاحمها على ملاحم اليونان. ويكاد يكون السند الوحيد في هذه المعركة للباحث هو اعترافَ دائرة المعارف البريطانية " أن الشعب الشركسي هو أغنى موضوع لتاريخ المدنية القديمة " (الكتاب ص 55)
إلا أن الباحث لا يألو جهداً لانتزاع السبق معتمداً على البراهين العقلية؛ فإله الحديد الشركسي (لَبش) يعود تاريخه إلى بدايات عصر الحديد، في حين أن إله الحديد اليوناني هيبايستوس وُجد في عصرٍ كانت صناعة الحديد معروفة فيه. والبرهان الثاني هو أن الهياكل الميتولوجية اليونانية وُضعت في مرحلة من حياة الإنسانية أكّد الرجل فيها سيطرته في المجتمع، في حين أن علاقة إله الحديد الشركسي بالسيدة ستناي، والاحترام الذي يُكِنّه لها يدلان على أن الملحمة تنتمي إلى الحقبة التي كانت السيطرة فيها للأم. وهي متقدمة على الحقبة الأبوية. ويستنتج الباحث من المقارنات أن " لبش" أقدم من هيبايستوس بنحو ألف عام.
ولا يني الباحث يقيم الحُجة تِلو الحجة، ومنها تقييد بروميثوس الإله اليوناني إلى جبال القفقاس عقاباً له على سرِقتِه النارَ من أجل البشرية. ومعروفٌ البُعد بين اليونان والقفقاس، ومعروف أنه توجد عشرات الجبال في اليونان وحولها كانت الأسطورة تستطيع تقييد البطل إلى أحدها دون أن تصل به إلى القفقاس. غير أن الحق هو أن الأسطورة اليونانية اقتباسٌ من الأسطورة الشركسية. إن " حمربي"، أو غيره في روايات أخرى، تجرّأ وسرق غصناً مشتعلاً من نار الإله التي شبّت عندما ضربت صاعقة شجرة (لاحِظْ عبادة الشراكسة للرعد إلى عهد ليس بعيداً عن كثيرين منهم) فعاقبه الإله بتقييده إلى قمة صخرية في جبال القفقاس، يأتي نسر وينهش كبده، وما يأكله النسر نهاراً ينمو في الليل من جديد.
وتؤكد كتب التاريخ والمكتشفات الأثرية أن الإغريق نزلوا في سواحل البحر الأسود في القرن السادس قبل الميلاد، وشرعوا ببناء بعض المستوطنات هناك على جانبي مضيق كيرتش الحالي. ولكن الباحث يميل إلى أن الصلات بين الإغريق والشركس تمت قبل هذه المرحلة.
والأرض صغيرة على اتساعها حتى في تلك العصور التي كان الانتقال فيها بطيئاً شاقاً، فالقفقاس صلةُ وصْلٍ بأوربة شمالاً وغرباً، والجزيرة العربية جنوباً، وإيران والهند شرقاً. وقارئ التاريخ يدرك أن هذا القوس الحضاري كان مسرحاً للحملات العسكرية والهجرات البشرية في الماضي السحيق. ولهذا التواصل الإنساني بين الثنائي ساوسرقوه وأمه ستناي، وبين تموز وعشتار، وأوزيريس وإيزيس، وهو ثنائي لعب دوراً بارزاً ومتميزاً في فِكر المنطقة الديني ما زالت رواسبه في المعتقدات الشعبية والدينية. وكان هذا الثنائي مصدر إلهام للشعراء والفنانين؛ بل إن أصل المسرح الإنساني هو تمثيل الفراعنة القدامى لملحمة أوزيريس الذي اغتيل وهو يحكم بلاده بالعدل، فقطع المجرمون جسده قطعاً صغيرة، ودفنوها في أماكن متناثرة. غير أن الزوجة إيزيس انتقمت وجمعت جثته.
ومن التشابهات المدهشة بين الرموز في ملاحم النارت ورموز الملاحم الأخرى ما توصَّل إليه الباحث من تشابه بين رمز المرأة الأم والراعي، والنهر؛ فالأم ستناي أم النارتيين خارقة الذكاء، مقاتلة مسيطرة على المجتمع:
" تلك هي
كل أفكار العالم من صنع يديها.
وكل الجمال في الكون كان صورتَها.
كانت شريكة بطولاتنا نحن النارتيين.
شمسَنا في النهار كانت
وقمرَنا في الليل.
تلك الأزهار التي ترونها هديةٌ منها.
فقد نبتت من أجل ستناي.
إنها تزهر مرتين.
فقد كانت السيدة تبدو في أبهى زينتها مرتين في اليوم. (الكتاب ص 22)
بل هي الشمسُ نفسُها كما يبدو من السطر الأخير، شمسُ الشروق، وشمسُ الغروب؛ففيها ملامح لإلهة الشمس الأرينية الحيثية التي تعيِّن حدود البلاد، ونظرة منها كفيلة بأن تجلب السعادة؛ فكذلك ستناي:
" أنتِ تسلبين كل من ينظر إليك.
والكلّ متلهفٌ لرؤيتك
يا أمل الشباب الدائم
يا هِبة الحب الغالية. (الكتاب ص 24)
وعشتروت الإلهة أهمُّ من تموز الإله لأن عشتروت هي مصدر الحياة وتموز ابنُها ثم بعدهما زوجُها. فكذلك ستناي وساوسرقوه، الولدُ الذي تتمنى ستناي دائماً لو كان زوجها.
وللراعي دور مركزي في تاريخ الإنسان منذ القديم. وقد عرف الإنسان الرعيَ مرحلة متوسطة بين الصيد والزراعة. وعرفت البشرية صراعاً دامياً بين الرعاة والمزارعين تجلى في موجات الرعاة التتر والبدو الذين تدفقوا على بابل ونينوى وروما ومصر.
ومن الأساطير التي تحفل بهذه العلاقة التناحرية أسطورة أنكيدو – دوموزي السومرية، وقصة قابيل وهابيل في العهد القديم.
والماء رمز من رموز الفكر الأسطوري لدى شعوب الحضارات القديمة، كالأسطورة السومرية التي تتحدث عن ولادة إله القمر " سن" الذي تحمله " ننليل" من " أنليل" وهما مبحران على سفينة في الجدول. وبعد ذلك يُنفى أنليل إلى " العالم السفلي " فتلحق به ننليل وهي حُبلى لتضع طفلها إله القمر. فكذلك تحمل ستناي من الراعي قرب النهر، وتنزل به، في إحدى الروايات، إلى بيت تحت الأرض مدّعيةً المرضَ، ولا تخرج إلا بعد أن تضع ساوسرقوه.
إن الملاحم مصدر غنيّ للمعلومات التاريخية والأنتروبولوجية، ومصدر متعة، ولاسيما أننا نعيش عصراً جافاً طغى عليه المنطق العلمي والعقل الصارم والحقائق الرياضية، وخلا من الخيال الساذج المجنَّح الذي كان يحلِّق بالأسطورة الشعبية وبِسامعِها في أجواء اللامعقول، ويسرح بالإنسان بعيداً عن هموم عالمه الواقعي خيراً مما يسرح به التلفزيون ُ تسليةُ هذا العصر.
ومن خلال هذه الملاحم نكتشف أهمية الحجر في حياة انسان، فهو أصلب مادة قبل الحديد. صنع منه الإنسان الأسلحة والأدوات والتماثيل. وإلى مكانة الحجر يعزو الباحث مكانة الحجر الأسود في الجاهلية. ونعرف من خلال هذه الملاحم أهمية النار بصفتها نقلةً حضارية عظيمة منحت الإنسان القديم الدفء والأمان، واتخذها وسيلة تطهير للنفس من آثامها.
إذا كان لكلٍّ منا حتى الجيل العاشر، عصرِ الملك لويس الرابع عشر في فرنسا ألف وأربعة وعشرون جداً حسب بعض الباحثين فأَولى بنا أن نعد الناس جميعهم أسلافنا، تاركين لأساتذة الرياضيات أن يحسبوا بالضبط عدد أجدادنا منذ أربعة آلاف سنة تقريباً، وهو العصر الذي ترويه الملاحم؛ فكيف المجال لمئات الأرقام؟!
إن ميزات هذا البحث والكتاب أكثرُ من أن تُحصى في هذه العجالة. ومن أعظمها المنهج العلمي الذي يتّبعه توثيقاً وعودةً إلى الأصول، وكثرة المصادر والمراجع، مما يجعل بحثه ذا صبغة أكاديمية. وعدمُ الانبهار بآراء الأسماء الكبيرة بل التوقف عندها ومناقشتها واستقراء النصوص، وجمع الرواياتِ المختلفة المتعددة للواقعة الواحدة، المجموعةِ من أماكنَ متعددةٍ، وعلى أيدي باحثين متعددين. كل هذه المواصفات تجعل البحث بحثاً أكاديمياً لا ينقصه إلا بعض الفهارس التفصيلية في خاتمته، كفهرس المصادر والمراجع، وفهرس بأسماء الأعلام، وأسماء الأماكن... توفِّر الكثير من الجهد على الباحثين الذين سيضمون بالتأكيد هذا الكتاب إلى مراجعهم، وتفتح لهم الطريق إلى كنوزه.
- عنوان كتاب للباحث في التراث الشعبي الشركسي ممدوح قوموق صدر عن دار المجد، يتضمن دراسة ونصوصاً مختارة. والمقالة منشورة في مجلة الجمعية الخيرية الشركسية بدمشق.