من المرجع في الخلافات اللغوية المعاصرة؟
لا تزال تُسمَع أصداء الخلافات اللغوية العربية، بعد ما يزيد على ألف عام من فورتها. وتخصص الصحافة أحياناً زوايا ثابتة لهذه الموضوعات. ويحدث على مستوى أضيق في الجامعات مثلاً الطعنُ من قِبَل أساتذة اللغة في زملائهم في الجامعة عينها، أو في جامعات أخرى. ولا يكاد مجمع لغوي عربي يحظى باحترام العرب جميعاً، أو على الأقل المهتمين منهم بشؤون اللغة على الرغم من وجود اتحاد للمجامع العربية، بل ما أكثر ما يُطعَن في كفاءة هذه المجامع وكفاءة أعضائها. وما إن تعتد برأي أحد كبار الأساتذة حتى تجد من يسفِّهه، فتنكفئ خائباً محتاراً في من تحتكم إليه.
يعاني المتكلمون بالعربية أزمة خلاف دائم على لغتهم، خلافاً للناطقين باللغات الأخرى، مع أن المتكلمين بالعربية ينتمون إلى أمة واحدة، لا إلى أمم شتى كالناطقين بالإنجليزية أو الإسبانية أو الفرنسية، ومع أن هذه اللغة نفسها أدّت، ولا تزال، دوراً مهماً في توحيد العرب، ولا سيما بجمعِ شملهم حول كتابهم الموحَّد: القرآن الكريم.
وتاريخ هذا الخلاف قديم جداً بدأ منذ عصر التدوين، أي منذ القرن الثاني للهجرة. ونشأ عن طبيعة اللغة العربية نفسها، فاللغة التي اُستُخلِصت منها الأصوات والألفاظ والقواعد لم تكن لغة واحدة تماماً. وما زلنا نسمع الآن بالجيم الفصيحة والجيم اليمنية والجيم الشامية، والجيم المصرية. والقبائل التي أُخِذت عن أفواهها هذه اللغة كانت متناثرة في رقعة واسعة من الجزيرة العربية على الرغم من أن العلماء العرب لم يأخذوا من عرب التخوم ومن المخالطين للأعاجم. وحكاية الرجلين اللذين اختلفا على لفظ "الصقر" أهو بالصاد أم بالسين. فلما احتكما إلى أول من لقِيَهما على الطريق قال: أما أنا فأقول: "الزقر"، حكاية معروفة، لها دلالات عميقة. ولم تكن هذه القبائل في مستوى حضاري واحد. ولا وُضِعت اللغةُ كلها في وقت واحد، بل تراكمت على مرِّ السنين.
وسّع شقةَ الخلاف طبيعةُ العلل التي تتحكم في العلاقات اللغوية، ودلالات الألفاظ، وطبيعة البحث العلمي، يضاف إليها الزخم العلمي الذي أوجده الاهتمام بالقرآن الكريم قراءاتٍ وتفسيراً، وبالحديث النبوي، والعلومِ التي نشأت على هامش الدين الجديد. ولم يكن بعض العلماء والرواة بعيدين عن افتعال هذه الخلافات أحياناً لإخماد نار المناقشة أو لإذكائها، أو لاكتساب المجد الشخصي، أو المتاجرة بالشواهد النحوية أو اللغوية، لأن الاختلاف بين العلماء أعمُّ منه بين العرب، وذلك لأن العلماء اختلفوا في الاعتلال لما اتفقت العرب عليه، كما اختلفوا في ما اختلفت العرب عليه، كما يقول ابن جنّي.
ومعروف أن هذا الخلاف تحول إلى مادة للتندّر في مجالس الخلفاء العباسيين وولاتهم ومتنفذيهم الذين شرعوا يعقدون مجالس لأقطاب المدرستين البصرية والكوفية. ويطرحون على بساط المناقشة موضوعاً قد يكون تافهاً، فيثيرون حزازات الطرفين، ويجددون الشجون. كالذي يروونه عن "المسالة الزنبورية" بين الكسائي زعيم مدرسة الكوفة، وسيبويه زعيم مدرسة البصرة، والتي انتهت على ذمة الرواة بموت سيبويه غمّاً.
ولا نظن أن الخلافة العباسية في عصر هذه المجالس، وهو عصرُها الذهبي، عصر الرشيد والمأمون، كانت عاجزة عن فرض إحدى المدرستين على رعاياها، ولا سيما بوجود مدارس التعليم التي تنشر العلم أفقياً. ولكن نعتقد أن السلطة العباسية لم تشأ التدخل في أمرٍ لا يمس مباشرة أمن الدولة. ولم تشأ أن تحُدّ حرية الرأي، وهي وقود التقدم العلمي العربي. وكذلك كان العصر برُمّته عصرَ تأسيس العلوم من فقه وتفسير وقراءات، وعصرَ تمازج الثقافات من عربية وفارسية ويونانية.
وفيما تفاقم الخلاف وتحول إلى ما يشبه الفوضى، وأصبح الخلفاء يتخذونه مادة للتسلية، وكان العقل العربي قد اكتسب خبرة عميقة تُمكّنه من تجاوُز هذا المأزق، ظهرت في القرن الرابع مدرسة بغداد اللغوية. حاولت هذه المدرسة معالجة الخلاف، لا بالانتصار لأحد الطرفين بل بانتهاج منهج علمي موضوعي ينظر إلى اللغة على أنها حصيلة تطور طويل، ونتاج حياة اجتماعية مديدة ومعقَّدة اتُخِذت فيها اللغة وسيلة اتصال بين الناس. ووضعَ أقطاب هذه المدرسة قواعد محددة لبحث هذه الخلافات والحكم فيها.
لم يأخذ المتأخرون بتعليمات مدرسة بغداد، وإلا كان الخلاف حُسِم في قرن من الزمان مثلاً. والذي حدث هو النقيض، فشقة الخلاف اتسعت، وانتقلت من خلاف بصري – كوفي إلى ساحات أخرى، كالميل إلى التعليل، والاستعانة بالعلوم الأخرى كعلم الكلام، وعلم المعاني، وعلم أصول الفقه، وهي علوم ازدهرت بدءاً من القرن الثاني الهجري، وبلغت أوجَها في القرن الخامس. ولم يزد كبار النحاة المتأخرين كابن مالك وابن هشام على أن أججوا الخلاف. وكذلك فعل مؤلفو المعاجم الذين لم يتخطَّوا مرحلة النقل من المعاجم المتقدمة عليهم، وتخطئة سابقيهم، دون الانتباه إلى أمور كثيرة تنبّهَ إليها علماء مدرسة بغداد، ولاسيما تعدد لغات (لهجات) العرب، وكلُّها حجة.
ولا نزال ندور في هذه الدوامة، دوامة الألفاظ المستخدمة، ورفْضِ ما لم يرِد في معاجم المتقدمين أو قبوله. وما زلنا ننظر شزراً إلى اللغويين الذين يقبلون الجديد الذي وطّده الاستعمال الاجتماعي.
حاول مجمع اللغة العربية المصري مجاراة العصر الذي نعيش فيه، فكلّف منذ ثلاثة عقود لجنة ألّفت "المعجم الوسيط"، وهو معجم متميز باستيعاب الجديد من الألفاظ التي دخلت اللغة في عصر النهضة العربية. وأصدر المجمع، ويُصدر، باستمرار قرارات "قياسية"، مثل قياس اسم الآلة، وقياس أسماء الأمراض، والمصدر الصناعي.
ولا يبلغ التفاؤل بالإنسان العربي المعاصر أن تتبلور سلطة عربية مركزية قوية تحسم هذه الخلافات وتفرض هيمنة لغوية شاملة تنتقي من هذا الركام من المعاجم وكُتُب النحو واللغة ما تعتقد أنه الأصلح والأقرب إلى المنطق، وتنفي ما سواه، إذ لا فائدة في أن يقتني العرب مئة كتاب في النحو إذا كان واحد يُغني، ولا مئة شرح لكتاب سيبويه بتوافر شرح أو شرحين جيدين.
إن من المؤسف حقاً أن نظل نناقش إلى هذا العصر مسائل عفا عليها الزمن، مثل صحة إعراب كلمة، أو صحة معنى كلمة أخرى، بعد مُضيِّ اثني عشر قرناً على بدء تدوين اللغة العربية وتأسيس قواعدها.
لماذا لا يكون هناك نوع من التنسيق اللغوي على غرار التنسيق الاقتصادي أو الرياضي مثلاً؟
إن قرارات تصدرها هيئة تتمتع بتأييد معظم العرب لابد أن تحظى بالاحترام والقبول، ولابد أنها ستكون صائبة. وإن لم تكن كذلك فالحياة ستثبت الصائب من هذه القرارات، وتمحو الضعيف منها.
*جريدة البيان الإماراتية السبت 29 تموز 1989.