من قلب القلعة الأمبريالية - الحرب ضرورة رأسمالية
يصاب المرء بالدوار عندما يسمع أرقام ملفات الحروب الحديثة، الباردة والمحتملة، من ميزانيات التسليح، وتعداد الأسلحة، وأرقام الضحايا، والشتاء النووي والعصر الجليدي اللذين يتلوانها.
ولا يكاد يختلف اثنان على دور الأمبريالية العالمية في إشعال الحروب. ولكن الموضوع يكتسب أهمية خاصة حين يعالجه بأسلوب موضوعي محايد باحثٌ أمريكي من قلب القلعة الأمبريالية، لا يمكن اتهامُه بالانحياز للعالم الثاني أو الثالث. ولاسيما أن هذه المعالجة تأتي في سياق بحث جذري ومفصَّل لتطور الآلة الصناعية العملاقة عبْر التاريخ، وباعتبار الحرب إحدى نتائج هذه الآلة، وهو الباحث لويس ممفورد في كتابه: أسطورة الآلة.
ومهما يكن رأي المرء في ستالين ومَن أعقبه فإنه يعذره على الأقل في تطويره للآلة العسكرية السوفييتية عندما يعرف أن الولايات المتحدة كانت قد أعدّت بعد واحد وخمسين يوماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كان البلدان حليفين فيها إنزال عشرين ضربة ذرية بالاتحاد السوفييتي، في ما يُعرف بمشروع " توتاليتي ". ثم أعدت خطة حرب عالمية ثالثة عام 1957 لإلقاء ثلاثمئة قنبلة ذرية على الاتحاد السوفييتي وحلفائه في ثلاثين يوماً، يذهب ضحيتها في اليوم الأول ستة ملايين وسبعمئة ألف من المواطنين السوفييت، وهي المعروفة بخطة " دروبشوت".
ووفقاً للدراسات التاريخية والأنتروبولوجية فإن الحرب هي قبل كل شيء نتاج سيادة العنصر المذكر على البشرية. فهي لم تعرف حرباً في عصر سيادة المرأة، أو تحديداً بدأت الحرب المنظمة الهادفة مع ظهور الملوك وأشباههم الذين ركّزوا القوة الاقتصادية والمُلكية الخاصة والقوة البشرية حولهم، وابتدعوا الحرب المنظمة بعدما فرضوا على أتباعهم الطاعة غير المشروطة. وفرضوا الجزية على فلاحي العصر الحجري الأخير السلبيين اللاعدوانيين. ولم يكن صعباً على عُصبة من الرجال الأشرار القساة المسلحين إخضاع أعداد كبيرة من الفلاحين، كما لا يصعب الآن على بضعة مجرمين مسلحين السيطرة على شارع، أو احتجاز رهائن.
كانت المقامرة بالحرب ضرورية للملوك القدماء للوقاية من الخصوم الحاسدين، والأعداء الطامعين، ولامتصاص النقمة الجماهيرية، سواء من الأحرار أم من العبيد، ولامتصاص طاقاتها الفائضة، فكانت الطبقة القائدة تعود إلى مجموعة أسلحتها المادية والبشرية لإعادة تثبيت سلطتها لدى أول خلل. وكانت الحرب وسيلة لإبقاء الأقلية المهيمنة على اتصال مع حقائق الحياة العضوية، وهي حقائق تهدد بإذابتها حياةُ الرخاء واللذة التي تعيشها.
ولم تزُل مؤسسة الجيش زوالاً تاماً خلال خمسة آلاف الأعوام بين العصور الأولى وعصرنا، بل استمرت مستفيدة من بعض الإصلاحات المستجدة غير السياسية كتنظيم السجلات، وبعض التطورات في التكتيك القتالي دون تطور جوهري في أسلحة القتال، فظلت الأسلحة البدائية ذاتُها، السيف والرمح والمنجنيق. واستمر ظهور قادة عسكريين كبار من عصر إلى عصر. ولاسيما في الحروب الطويلة الأمد والطاحنة كالحروب الصليبية، وحروب المغول على الشرق الإسلامي.
وشهدت أوربا قبل الثورة الصناعية المشهورة المترافقة بصعود البرجوازية إلى الحكم ثورةً صناعية جنينية ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، أجهضتها الظروف المناخية المريعة ما بين عامي 1315 – 1317، وما رافقها من مجاعات وأوبئة لم تستطع معها الثورة الوليدة الوقوفَ على قدميها ثانية إلا في مجال التسليح والحرب؛ إن الاستعمال المتزايد للسلاح مع الاختراع المتأخر للمدفع والبندقية اقتضى أول ما اقتضى المزيد من الصناعات التعدينية: المنجم والفرن والمصهر والحدادة منذ القرن السادس عشر. فكانت أولى دَفعة ذات شأن لصناعة التعدين.
وسرّعت آلةُ الحرب هذه في العصور الوسطى وتيرةَ توحيد الإنتاج، والإنتاج بالجملة، وهما قوام الإنتاج الرأسمالي، وسِمَتُه. فبمقدار ما تزداد الدولة القارية المركزية مساحةً وفعالية وامتلاكاً للثروات تزداد حاجتها إلى جيوش أكبر لتدعيم سلطتها. ومنذ القرن السابع عشر، وقبل أن يبدأ استعمال الحديد في الفنون الصناعية بكميات كبيرة، وُجِد مصنع الأسلحة في فرنسا، ومثله في السويد، وكان في روسيا منذ عهد بطرس الأكبر معمل سلاح يشغل زهاء سبعمئة عامل. وهو رقم لم يكن مألوفاً في ذلك الحين.
وكان تقسيم عمليات الإنتاج المتسلسِل قد بدأ في هذه المصانع. لقد أقيم الصنع المسبق والإنتاج المتسلسل لأول مرة في هذه الترسانات التي نظمتها الدولة، وعلى الأخص، في مدينة البندقية قبل الثورة الصناعية، وطُبِّق أسلوب صنع الآلات القابلة للتبديل على نطاق واسع في إنتاج البنادق منذ عام 1785 في فرنسا، و1800 في الولايات المتحدة.
وبالإضافة إلى هذا التوسُّع الكمي في الإنتاج، وإلى تقسيم العمل، والإنتاج المتماثل، طوّرت صناعة الحرب نوعية المعدن، وهو التطوير الذي ما يزال مستمراً، فظهرت الحاجة إلى أنواع من المعدن أحسن وأنسب من الحديد العادي لصنع المدافع والقذائف، وبخاصة بعد ابتكار أسلوب التمهيد المدفعي الواسع قبل الهجوم، وهو من إنجازات نابليون، محاربِ أوربا الأول.
وطوّرت صناعة الحرب كذلك العلومَ الرياضية والفيزيائية الضرورية لسلاح المدفعية، وبدأت الاهتمامات العسكرية تطغى على الفنون الصناعية المعاصرة. ولم يعد غريباً أن يكون المهندس المدني مهندساً عسكرياً، ومهندساً ميكانيكياً وتعدينياً في آن واحد.
وحلت محل الجيوش المؤقتة العابرة المجموعة وقت الحاجة جيوشٌ نظامية مدربة باستمرار، بفضل التجنيد الإلزامي، أو الجنود المحترفين، خاضعةٌ لنظام قاسٍ منن التدريب، وهذا التدريب المنتظم القاسي صَمّم كما صُممت الآلات المستحدثة، ككائنات بشرية مُنمذَجة تنفذ الأوامر آلياً دون ردود فعل عفوية أو غريزية.
ووصل الأمر بالحكام المطلقين كبطرس الأكبر في روسيا، ولويس الرابع عشر في فرنسا، وفريدريك غليوم في ألمانيا إلى أن يقودوا جيوشاً دائمة. تتمركز في ثكنات دائمة، وأصبحوا قادرين على ممارسة رقابتهم وسطوتهم على أعداء بعيدين، وسكان متفرقين.
في العصر الحديث
يتساءل الباحث: هل اتحاد القوة والإنتاجية الخارقتين مع العنف والتدمير اللذين لا يقلّان عنهما هو اتحاد مصادفة محضة؟ إذا اعتبرنا الثورة الفرنسية بداية العصرِ الحديث، عصرِ تحرر الإنسان وارتفاعِ أفكار العدالة والإخاء والمساواة، وفصلِ السلطات، فإنها، أي الثورة، زوّدت الحكام بسلطات مطلقة كما كان يتمناها الملوك، كالتجنيد الإجباري، وذلك تحت غطاء دستوري؛ حتى إن أحدهم كتب: إن حكم العقد الاجتماعي (يعني الحاكم الدستوري الذي أتت به الثورة الفرنسية) ليس إلا نسخة مقلوبة من ملك فرنسا تزوّده حاشيته بالسلطة التي يطلبها.
أصبحت الأمة هكذا تحت السلاح بفعل التجنيد الإجباري فتوسعت اعتمادات الصناعات الحربية، وصارت أرباحها مضمونة بعامل الاستهلاك السريع الناتج عن التدمير المتواصل، وكان لويس الرابع عشر قد احتاج جيشه إلى مئة ألف قطعة من اللباس الموحد، وهذا الرقم وحده كافٍ لتشجيع إنتاج الجملة المتصف بالبعد عن الذوق الفردي والاقتصار على الأبعاد العامة للجسم البشري.
واقترنت أوتوماتيكية الإنتاج بالاستبداد في تشكيل كل منظمة عسكرية حتى قبل اختراع الأسلحة الشاملة، فالحرب هي الوضع الأمثل لتجميع الآلة الصناعية العملاقة. وإبقاء التهديد بالحرب قائماً باستمرار هو أضمن وسيلة لإبقاء تجمُّع العناصر بوصفها وحدة عمل مجدية، تلك العناصر التي تكون في غير هذه الحالة مستقلة أو شبه مستقلة. وفي ظل هذا الوضع يُعَدُّ كل نقد لبرنامج الآلة العملاقة ومبادئها وكل انعتاق من نظامها المطَّرِد تهديداً للنظام كله.
وكلما ازدادت تبعية الآلة العسكرية للاختراعات التقنية ولإنتاج الأسلحة بالجملة كانت تتعاظم أرباح النظام الاقتصادي الوطني المباشرة، فالحرب باستهلاكها الذي لا يجارى للسلع وتبذيرها الذي لا مثيل له تقضي مؤقتاً على النقيصة المزمنة للتكنولوجيا المتوسعة باطراد، وهي فائض الإنتاج، وهي بإعادتها لندرة السلع ضروريةٌ لتأمين الربح في رأي الكلاسيكية الرأسمالية.
بدأ زواج العلم والحرب كما سبق منذ عصر نابليون، ثم بدأ تجنيد العلماء للأغراض الحربية منذ مطلع الحرب العالمية الأولى، وأعطى نجاح العلماء في صنع القنبلة الذرية المكانة المركزية داخل مجمع القوة الجديدة دفعةً إلى اختراعات أخرى.
حتى العلماء ذوو النزعة الإنسانية كآينشتاين الذين حسبوا النتائج المدمرة لهذه القنبلة ساهموا دون قصد في إنتاجها بسبب خوفِهم من سبْقِ هتلر إلى هذا الإنجاز الذي حذّر منه الجيل السابق لآينشتاين. ثم إن الأمبريالية الحديثة جزّأت صناعة هذه القنبلة بين مجموعات العلم بحيث لا يعرف أحد ما يفعله الآخر، فكانت النتيجةُ الكارثةَ.
وعلى كل حال لم تجد الآلة العسكرية المتنامية صعوبة في إيجاد جيل جديد من العلماء حرصوا على تنشئته غير مبالٍ بالقيم الأخلاقية، وبالنشاط المستقل. ومِثلُ هذا الجيل ساهم في هذه الجريمة المستمرة بالتقليل عن عمدٍ من أخطار السلاح النووي للتلاؤم مع السياسة الوطنية. وربما كان الجيل القادم من العلماء سلالة منتقاة من المهد لتشويهها، أو مصنوعة مخبرياً.
والجيوش الأمبريالية كانت تُهيَّأ بمؤسساتها قبل إنجاز القنبلة الذرية للإبادة الشاملة للمدنيين. فقد قضى القصف الأمريكي في لية واحدة من ليالي الحرب العالمية الثانية على مئة ألف شخص بقنابل النابالم، وهو رقم لا يقل كثيراً عن ضحايا القنبلتين الذريتين في نهاية الحرب.
وتضافرت النازية والأمبريالية في هذا السباق المحموم، نتيجة التحريض المتبادل على التفوق العسكري وتجنيد العلماء والسِّرِّية المطلقة في الأبحاث. وكان الرئيس الأمريكي مزوَّداً أثناء الحرب بسلطات استثنائية منصوص عليها في الدستور الأمريكي، وهو تقليد مباشر لسابقة رومانية. وبهذه السلطة، وبالخوف من اختراع هتلر لسلاح أعظمَ، أُتيح لروزفلت أن يحشد الطاقة البشرية والفكرية لصُنع السلاح النووي.
سرّعتِ القنبلة النووية التي كانت إنجاز التنافس بين الأمبريالية والفاشية على تدمير العالم تجميع الآلة العملاقة، الصناعية والبشرية، لأن حالة الحرب الدائمة بعد انقضاء الوضع العسكري الاستثنائي أصبحت شرطَ الإبقاء على عمل الآلة العملاقة فعلاً، وشرطَ بقائها وتزايُد توسُّعها. وبيئةُ الحرب والاستعداد لها هي البيئةُ العلمية الثقافية المثالية لتضاعُفِ كل أنواع الأجهزة الفتاكة.
والإنجاز الذي أنجزته صناعة الحرب هو القضاء على الاقتصاد المتوازن المخصص لاستصلاح الحياة والتوسُّع بلا حدود اتساعاً هائلاً. وانتقل مركز القوة الاقتصادية من الزراعة والصناعات الزراعية، مع ما يرافقها من صناعات كالنسيج والبناء، إلى المنجم، فالحرب. ومن دون الحرب يختنق النظام التقني العملاق بشكله الأرضي، وحتى الكوني المعاصر، فهي التي تمتص الإنتاجية الفائضة بلا هدف.
غير أن هذه الإنجازات الاقتصادية الزائفة كانت لها نتائج اجتماعية وسياسية مدمرة. إن لامركزية السلطة السياسية ذات الزي المستقل، والمتمثلة في الطغاة والمستبدين الذين هدموا الالتزامات الإقطاعية والحريات البلدية قد مارست هيمنة لا حدود لها على الثروة الخاصة عن طريق فرض الضرائب على الشعوب الأضعف، ونزْع الملكية، والسرقة المحضة، فانبعثت سيادة الدولة اللاشخصية، وطالَبَ الحاكم الجماعي في ظل حكم النخبة أو الحكم الجمهوري بكل الامتيازات وكل السلطات التي طالب بها الملوك السابقون، بل بطريقة أكثر جذريةً. ورغم كون الولايات المتحدة زعيمة " العالم الحر" فهناك وكالات حكومية مركزية لا يحدّها الرأي العام، ولا تراقبها هيئات منتخَبة.
وأوجدت أجواءُ الحرب الحديثةِ وطرقُ الاستعداد لها نخبة علمية – عسكرية متجردة من الإنسانية، تابعة للآلة العسكرية الفتاكة، تضع أهدافاً استراتيجية تصل إلى حدِّ قتلِ مئة مليون إنسان في يوم واحد دون تقزُّزٍ حتى من التضحية بعدد مماثل من مواطنيهم؛ فأي إنسانية بقيت لمن يتباهى بأن الاشتباك النووي سيذهب ضحيته ما بين ربع ونصف سكان الدولتين العظميين، بغضِّ النظر عن النتائج البعيدة على الجنس البشري وحضارته.
وأوجدت شبكةً متكاملة من الخبراء والمختصين في إفناء سائر مجالات الحياة من مهندسين وأطباء وميكانيكيين، يوجّهون أنفسهم بأنفسهم، منغلقين عن كل واجهة بشرية. إنها نخبة تكنولوجية أخذت على عاتقها السيطرة على كل الفعاليات البشرية، من الإخصاب الصناعي، إلى ريادة الفضاء. إنها باختصار نخبة لا يمكن مسُّها ولا مهاجمتها ولا انتهاكها، وهي الشريحة الوحيدة من المجتمع، المحميةُ من الحرب في ملاجئ أمينة.
وفي المقابل لم تعد هذه الآلة العملاقة مضطرة إلى الاعتماد على اليد العاملة البشرية لممارسة السلطة لأنها تستطيع أن تأمر بالطاعة، وتمارس السلطة بواسطة ترسانة واسعة من الأسلحة الفعالة، وبأقلِّ قدرٍ من الوسطاءِ البشريين المجردين من الروح الإنسانية، غيرِ المحتاجين إلى فهْم الأوامر الموجهة إليهم. أما المعارضة التي كانت قوية في مطلع القرن العشرين فقد تلقّت ضربة قوية بنشوب الحرب العالمية الأولى لم تُفِق منها بعدُ.
حسبُنا أن نذكر أن الولايات المتحدة اشتركت ما بين عامي 1959 – 1966 مئة وسبع مرات في عمليات عسكرية على امتداد العالم. وحتى عام 1969 كان لديها 432 قاعدة عسكرية في 68 بلداً. وكان نصف الجيش الأمريكي خارج أرضه (للدفاع عنها؟!). وخاض هذا الجيش مئة حرب في ربع قرن بعد الحرب العالمية الثانية ذهب ضحية ستٍّ وثلاثين منها عشرون مليون ضحية.
حسبُنا هذه الأرقام لنتساءل: وهل يمكن لمثل هذه الدولة أن تترك العالم يعيش في سلام؟!
إلى الأمام. العدد 2038، 22- 28 /3 / 1991