يا أساتذة اللسانيات عرِّبوا هذا العلم ولا تترجموه
بادئ ذي بدء أنحني أمام شهاداتكم وألقابكم العلمية. وأحترم جهودَكم على مقاعد الدراسة وظروف الغربة، ثم جهودَكم وأنتم تناضلون لنشر هذا العلم في بلد تسيطر على أوساطه اللغوية عداءٌ لكل تحديث. وأعلن لكم بكل مودة أني متعاطف معكم ومع علمكم. وأومن أن المستقبل مهما طال سيُنصفكم وعِلمَكم. وسبق أن أسهمتُ إسهاماً متواضعاً في جهودكم من خلال مقالة لي في "التراث العربي" من إصدار اتحاد الكتاب العرب بعنوان "قراءة في فكر ابن جني على ضوء علم اللغة الحديث"(العدد 25 – 26)
بل كدتُ أخسر شهادة الماجستير بسبب هذا التعاطف؛ فقد عزّ على أحد أعضاء لجنة الحكم أن أقول في مقدمة رسالتي "اللغة ظاهرة اجتماعية حسب مدرسة أبي علي الفارسي" وكادت الشهادةُ تُسحب مني لولا أن تقاليد جامعاتنا لا تسمح بهذا ولو كان الباحث...
وأنبيكم أني قرأت بالفرنسية كتاب جان بيرّو "علم اللغة"، وترجمتُ كمن ينحت في صخر شطراً منه. ثم عزفتُ عنه كي لا أتعدى على هذا الاختصاص الذي له أربابه. وأنبيكم أيضاً أن أستاذي في تلك المادة في سنة دبلوم الدراسات العليا كان العلّامة عبد الهادي هاشم، وهو من هو. ورغم ذلك لا أخفي عليكم أني لم أستطع أن أميِّز، بل أترجم مصطلحات مثل langage و concordance وcorrespondence. وحاولت أن أنتزع من الأستاذ المصري أحمد مختار عمر في أثناء محاضراته في دورة اللسانيات بجامعة دمشق صيف 1980 مصطلحات إنجليزية لأقرِّبها إلى الفرنسية فالعربية فلم أفلح.
وأعترف أني كنت أتنطع في كل عدد من مجلة المعرفة سابقاً، والموقف والأسبوع الأدبيين، لكل مقال لساني، معتقداً في نفسي أني من أَولى القراء به، فيصيبني من الدوار ما يصيبني من مقالات الدوريات الأخرى نفسها التي تعقد عشرات الصفحات لتحليل بنيوي وهندسي، وأفقي وعمودي، لرواية كاتب جزائري أو مغربي لم يسمع القارئ العربي باسمه، دعْكَ من روايته.
ولْأعترفْ بأن الوحيد الذي فهمت منه شيئاً بعد أستاذيَّ عبد الهادي هاشم وجعفر دك الباب، هو الدكتور عبد السلام المسدي المعلم الحقيقي الذي بدأ معنا من الصفر. وأزال الصدأ عن معلوماتنا المصنفة تحت عنوان "علم اللغة القديم"، فإذا بنا نكتشف بفضل مهارة المسدي التعليمية أن أمّيّتنا ليست مطلقة، بل نفقه شيئاً من هذ العلم.
وأنبيكم كذلك أني فهمت، وأنا لستُ "فرانكوفون" من جان بيرو أكثر مما فهمتُ من عربية بعضكم. وستحتجون: وما ذنبُنا إن لم تفهم كما قال أبو تمام للأعرابي أبي العميثل: ولماذا لا تفهم ما يُقال؟
وأُصرّ على اعتراض الأخير على أبي تمام: ولماذا تقول ما لا يُفهَم؟
وأصر على ما أقول، فقد فهمتُ من ابن جني اللغوي العربي في القرن الرابع الهجري، ما لم أفهمه من أحدث مقالاتكم. وفهمتُ من الدكتور بدر الدين قاسم، وقد اتُّهم بأنه متطفل على الموضوع، ومن محاضرة واحدة، ما لم أفهمه من أحدث مقالة ظهرت في الغرب، وترجمتموها؛ ألأنه متقن العربية والفرنسية؟!
إن واضعي النحو العربي مثلاً استطاعوا تأسيس علم أصيل لأنهم لم يلجؤوا إلى ترجمة النحو اليوناني، وهو النحو الذي كان مسيطراً وجاهزاً ومتطوراً على قاعدة من مئات السنين، وفي وقت كان همّ المشتغلين باللغات الأخرى إثباتَ قرابة لغاتهم من لغات أعرق. ولا أعتقد أن النحاة العرب تأثروا بالنحو اليوناني خلافاً لبعض الباحثين؛ وهذا ساطع الحصري يحمل عليهم، ويدعو إلى إعادة تقسيم الكلمة إلى أقسام كثيرة كمن يشعر بالغيرة من النحو اليوناني ولغات العالم الأخرى بدلاً من التقسيم المعروف إلى ثلاثة أقسام: الاسم والفعل والحرف.
إن لكل لغة منطقها الخاص بعد المنطق العام الذي ينتظم اللغات كلها، ولها قوانينها الخاصة. وعلوم اللغة تستند إلى اللغة نفسها، وتغرف منها، وتحقق بهذا أصالتها. ولهذا انطلق النحاة العرب من خصائص العربية نفسها فقالوا: اسمٌ وفعلٌ وحرف، معتدّين بالوظيفة fonction فجمعوا بذلك كل عنصر في اللغة يؤدي وظيفة المسند إليه sujet دون اعتبارٍ للتفصيلات المعنوية، كالاسم الموصول والمصدر... بل إن ساطعاً الحصري نفسه اتّهم النحاة العرب بالوقوع في خطأ منطقي وهو تصنيف الجملة إلى اسمية وفعلية، بالنظر إلى ما تبدأ به "الولد نام – نام الولد" مع أن كلتيهما تتألف من الكلمتين أنفسهما، وتؤديان إلى المعنى نفسه؛ فهل كان النحاة العرب على خطأ حقاً؟
مقابل التقسيمات الكثيرة والمتضاربة للكلمة في اليونانية: أرسطو: الاسم والفعل والجزء والعاطف. ثم بحذف الجزء. والرواقيون: الاسم والجنس والفعل والعاطف والجزء. ثم مدرسة الإسكندرية + الضمير الشخصي والاسم الموصول... انطلق النحاة العرب من خصائص اللغة نفسها على مفهوم قريب جداً مما يُعرَف اليوم بالبنيوية الوظيفية، وميزوا في الجملة العربية ثلاثة مستويات: المستوى النحوي، والمستوى المنطقي، والمستوى الوظيفي. وهذا التمييز هو أساس التفريق بين الجملتين الاسمية والفعلية. وتدركون أفضل مني احتفاء الإمام الجرجاني في "دلائل الإعجاز" بهذا الموضوع.
هذا أمرٌ، والأمر الثاني هو أن النحو العربي وُضع في حينه لمجابهة مشكلات الحياة الجديدة: اللحن وضوابط اللغة، وللإجابة عن الأسئلة الكثيرة التي طرحها تطور العقل العربي (لاحِظوا أنه تزامن مع صعود المعتزلة، ومع نشوء المذهب الحنفي) والعلوم الجديدة التي نشأت مع الدين الجديد كالقراءات والتفسير وأصول الفقه... فكان لزاماً على علماء العربية أن يستوعبوا هذه القراءات، بما فيها القراءات الشاذة، من الناحية النحوية (كتاب الحجة في علل القراءات السبع، للأستاذ أبي علي الفارسي، وكتاب المحتسب في توجيه القراءات الشاذة لتلميذه ابن جني). وأصبح عليهم أن يعربوا القرآن الكريم، وأن يفهموا معاني الأدوات ليفهموا كتاب دينهم. وأصبح عليهم أن يزاوجوا العلوم الدينية باللغوية وبالمنطق لوضع علم أصول الفقه. وهكذا واكب علمُ النحو تطوُّرَ مشكلات الحياة وتطور العلوم، واستفاد منها كلها (أصول الفقه، علم المعاني، علم الكلام...) وعبّر عن خصوبة العقل العربي حيناً (النحو التعليلي التفهيمي) وركوده حيناً (النحو التلقيني) حتى القرن الثامن الهجري، حين رحل آخرُ عمالقة النحو ابن هشام الأنصاري عام 761 ه. وتحول مع عصور الانحدار والانحطاط إلى محفوظات وشتات من القواعد لا روح فيه.
أما اللسانيات الحديثة فعلمٌ وافد من الغرب، مثلُه مثل القصة والرواية والمقالة، أعرضْنا عن الأصول القديمة لها في تراثنا، وتلقّفناها كما هي. وهي مبنية على دراسات منفذة على اللغات الغربية دون أن يعني هذا عدم الانتفاع بها. فالقوانين الخاصة باللغات تصب أخيراً في مجرى علم اللغة العام. ولكنه علمٌ بمصطلحات ومفاهيم غربية ولذا يبدو في لغتنا هائماً على وجهه، لا مبدأ له ولا أساس مثلما للعلوم العربية الأصيلة. إن أرباب هذا العلم في الغرب بدؤوا به كما بدأ النحاة واللغويون العرب فكان مفهوماً، وبلغتهم. أما اجتزاء مقاطع من هنا وهناك، وترجمة مقال من فرنسا وآخر من ألمانيا لقارئ يجهل مبادئ هذا العلم فهو كدرس في الرياضيات العليا يلقى على شاعر. ويُسهم التشتت اللغوي العربي في تغريب هذا العلم، فالعربية المعاصرة لا تملك، وليس هذا عيباً في اللغة أو انتقاصاً منها، مُقابِلات دقيقةً للمصطلحات الأجنبية كالتخاطب والتوافق والتطابق... إنها (اللغة) تحتاج إلى من يُطوِّعها للتعبير عن هذه المعاني كما فعل الأسلاف.
ثم إن هذا العلم يبحث عن حلول لمشكلات اللغات، وما أكثرها، فالأوربيون بحثوا عن الصعوبات في تعلُّم لغاتهم، وبحثوا عن الحلول في اللسانيات، فخرجوا بالبنيوية والوظيفية والقواعد التحويلية التوليدية... بل أعادوا تصنيف أقسام الكلم وفق هذه المعطيات الجديدة، ودرِستْ لغاتٌ دراسة جديدة كالروسية والتشيكية والإنجليزية. وعُقدت مؤتمرات دولية، في حين توقفت مثل هذه الجهود لدينا عند محاولة لجنة المعارف المصرية عام 1938 في كتاب أو اثنين.
فما إسهامكم يا لسانيينا في مشكلات العربية التي لـمّا تنتهِ؟ وماذا لديكم من حلول؟ وكيف تعالجون الآن بروحكم "اللسانية" قضايا الخلاف المبثوثة في مثل كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف"؟ ما إسهامكم في محاولات تيسير العربية على الناشئين؟ ما موقفكم من الأخطاء الشائعة؟ من ازدواجية العربية؟ عسى أن تجيبوا!..