ذات يوم، كل يوم
ها أنذا على النافذة نفسِها. الشمس نفسُها منذ وعيتُ تتربع عرش السماء فتذرّ في العيون رماداً يبيّخ الآفاق ويمحو الحدود ويقتحم أنوف المارة،فيعطسون بضع مرات حتى يستعيدوا اتّزانهم. قبائح الحيِّ منثورة على أرض الشارع من أكياس القمامة، إلى مخلَّفات البناء، إلى فُوَط الأطفال وغير الأطفال. المتعيّشون توجهوا إلى موارد رزقهم بدءاً بسيارة الرمل التي تملأ الشارع مع الشروق بالمازوت غير المحترق كستارة دخانية في الحرب، تتلوه سيارات وسيارات كأفخم حيّ أوربي. أُقسم لم يكن في الجولان كلها يوم نزحنا مثلُ ما في شارعنا التافه من سيارات. يلعلع المقلع عشر مرات، عشرين، ثلاثين... وبعد كل عنعنة دعسةُ وقود مستعجلة، فإقلاع غاضب يبعث الأموات. ثم يتوالى باعة الوقود، وجامعو الخبز اليابس، وباعة الحُصُر والمقشات.
أتقلّب من جنب إلى جنب، أحتمي بأحلام اليقظة من جلبة الشارع، أنظر إلى الساعة: سيكون يومي طويلاً إذا بدأته الآن، لا، أجِّلْه ساعة أو نصف ساعة على الأقل. أستعرض ما يمكن أن أفعله هذا اليوم: لا شيء مهماً، لا شيء سوى اجترار الشكاوى والكتب والمجلات، وكلها قديمة. أتقلب وأحتمي ولكن أناساً جدداً ينضمون إلى مظاهرة الحياة، فيعلو إيقاعُها لحظة بلحظة.
إذن لا بد أن أخرج إلى النهار!
أذرع الممر بين الغرفتين والمطبخ عشر مرات، بل عشرين. أفتح باب البراد كل مرة وأتفقد ما فيه على قِلّته. أشرب أحياناً كأس ماءٍ لا عطشاً بل ليكون لفتح الباب مغزى. وأحياناً أملأ زجاجة فارغة. وزوجتي تحاصرني من زاوية لزاوية لتتمكن من إتمام المسح اليومي للبلاط.
وحين تكِلُّ قدماي وخاصرتي أقتعد الكرسي والنافذة.
الشارع الآن هادئ. وكل من يمر يلجأ إلى نافذتي ليهرب من القيظ بضع ثوانٍ. أتأمل ببلاهةٍ الشجرةَ الوحيدة في المدى ولكن لا ورقة تتحرك. أوهِم نفسي أني أفكر، وأجمِّع خطوط موضوع ما، غير أن ذهني راكد ركود الهواء. أبحث عن بعض المتعة في جلبة العصافير التي تتشاجر على أشياء لا نراها، وتتقافز من شريط إلى شريط. الطريق الرئيس حجبته بنايات شاذة من الطبقتين إلى العشر.ومن خلل البنايات يبدو تلٌّ أقرع لا يصلح إلا مرملة، وهو كذلك منذ دُشِّن أول معمل إسمنت في بلادنا.
البنايات النافرة تُطبق على صدري، وأشرطة الكهرباء والتلفون المتشابكة، والمارّون القلائل الخاملون. وفي الداخل نشاز مطربين ومطربات، وبرامج دعائية مخنثة. وليس ما أستروح به إلا شجرة الحور اليتيمة التي تبحث مثلي عن نسمة تتثنى عليها، والعصافير. وكلما ظننت نفسي أمسكت بطرف موضوع ما أفلت الحبل مني أو قاطعتني زوجتي:
_ سمعت ماذا قال الطبيب اليوم عن مضار التدخين والبلاستيك؟
وتشرع تشرح بلغتها " العلمية " ما سمعتُه عشرات المرات. أو عبر الإذاعة المحلية:
_ قالوا زوجة فلان حردت عند أهلها، وتطلب بيتاً مستقلاً!
وأنا لا أجرؤ أن أتهمها بقطع سلسلة أفكاري فما التأم منها إلى اللحظة حلقتان. تُطبق على صدري البنايات التي لا شكل لها ولا لون، وشرائط الكهرباء المُبعَدة من هذا السطح والموثقة إلى ذاك، وقيظ الشارع، وبصاق المارة ومخاطهم. يبدو لي أني أستهلك زادي من العمر أو يستهلكني كأي إنسان تجاوز سن الشباب بخطوات حثيثة، وهو يدفع اليوم تِلوَ اليوم استعجالاً لآخر الشهر. وتتبدد السنوات ومعها الأحلام والطموحات كالزبد. وأنا لم أتقن في سن البلوغ إلا التأففَ وقليلاً من الشتائم وبعض المشاجرات الزوجية، أغلبُها من هذه الكتب اللعينة التي أدمنتها، والدخانَ،ومهنتي التي تعلم صاحبها الخمول وعدم التفكير. وكل مشاريعي التي حلمت بها دفنتها في مهدها. ويوماً ما ستدركك الشيخوخة، إن لم يدركك قبلها احتشاء أو مرض عضال، أو رصاصة فرحٍ عمياءُ، أو... ولن تترك للناس ما يتحسرون عليك لأجله، ولا لذريتك.
من الخارج يطبق عليَّ وهْجُ الشارع، وبصاق المارة، وتفاهة الأبنية " ناطحات سحابنا ". ومن الداخل مطربو الدرجة العاشرة والمخنثون من مذيعي الإعلانات التجارية، وشهاداتي المشنوقة إلى الجدار. تنتفض ساعة الحائط برتابة مرة ثم مرتين ثم ثلاثاً... ينقطع عِرقٌ من الحبل الذي يشنقني حتى ليُخيَّل إليّ أنه سينقطع قبل أن أهتدي إلى مهرب من هذا الخانوق، ويهوي بالشهادة وصاحبها. وكلما اشتدّ عود الشمس باخت السماء وتداخلت بحواف الأرض، وخمدت شجرتي اليتيمة، واختبأت العصافير.
أشتاق إلى وجهٍ غريب يعبر، إلى ضيف يسألني عن أحد الجيران، إلى حصاة تُجعّد وجه هذه البركة. لو كنت في الريف لخرجت إلى الزرع، إلى الشوك. ولو كنت في المدينة لخرجتُ إلى زحام المارّة، إلى بريق المحلات، إلى حفيف الموظفات المتوجهات إلى أعمالهن... أما هنا فإلى أين؟!
مع بدء انحدار الشمس تتوقف سيارة جاري الأدنى الذي انتهز فرصةً ما، فعاد إلى البيت بالقليل مما يحمله من بقايا قضبان ودفوف خشبية، وتوافه أخرى تَعجب من أين يلتقطها، وكيف يجد الفرصة وهو الذي يسوق سيارة ليست لأحد، يوصل بها، كنمل الشجر، هذا المهندس إلى تلك الورشة، وهذه الورشة إلى ذاك المهندس. ثم تعليمات من المدير الأكبر إلى المدير الأصغر، ومن... إلى...ولكني اعتدت على أشيائه الصغيرة، بل صرت أخمّن أنه تخصص في هذا الضرب من اللقطات.
وبعدها تقتحم سيارة جاري الأقصى، وهي الأخرى سيارة سائبة. ويشرع ينادي أولاده: أنت اِحمل هذه، وأنت أمسِك من هنا، وأنت احرص على الصندوق. الحقُّ أن هذا الجار أخصبُ خيالاً، وكأنه فنان تجريدي، بل أسمّي محمولاته غنائم مما يغنمه جيش معاصر دخل مدينة معاصرة. وأطفال حينا الذين يلعبون بكل شيء إلا بألعابهم لم يعودوا يهتمون بما يجلبه ما داموا لا يعرفون مثيلاً في بيوتهم.
وفجأة تسكن الجلبة، وتتوقف الحياة من جديد فأعود إلى القصة التي بدأتها على غير شغف، وغفوت عليها بضع مرات. وسأتربع الأريكة عمّا قريب، وسأغفو حقيقة على أحداثها.
ولكن ها هي سيارة ثالثة. جاري المقابل يتسلل على غير عادته، ويحتار، على فراغ الشارع، أين يقف بها كأنما يخفي هو الآخَر شيئاً مهماً. سيارته كذلك ليست لأحد، وهي أفخم ما في عالمنا، وهو الوحيد الذي يحييني من بين هؤلاء الذين يمتلكون السيارات السائبة لأنه تتلمذ أعواماً عليّ، إلى أن تخرّج بمجموع لم تقبله جامعة ولا معهد، ولم تنفعه الدورات التي سلكها، وطلبات الانتساب إلى هنا وهناك، ولا المحاولات المتكررة لتعديل النتيجة، ولا قرض التسليف الشعبي للتسجيل في دولة مجاورة؛فكان أن انعطف نهائياً عن طريق العلم، ووجد نفسه بين عشية وضحاها، وبشفاعة شفيع، صاحب سيارة لولا أنها سائبة لظننته سائق أرستقراطيٍّ مصري من أبطال المسلسلات، من أولئك الذين يستغل المخرج وسامتهم ولباقتهم ليعلّق ربة القصر أو ابنتها في شباكهم، ويعقد بضع عشرة حلقة لفكّ الشباك. وهو آخذٌ من هذا النجم بياضه، ومن ذاك طوله... حتى جمع أطراف النجومية بانتظار الفرصة المناسبة.
ما أشد ما أفرح له حين أراه في هذا النعيم، نعيم البيجو ـ لا أدري ـ أو المازدا، فأنا لا أميز إلا الشاحنة من الباص. أنسى من فرحي أن عدم تناسب مواهبه العقلية مع وسامته ونواياه الطيبة حرمه نعيم العلم، وأنسى أنه دفع قرض التسليف الشعبي عبثاً لجامعة غريبة. وأشدُّ ما يُفرحني هو أنه ما نسي فضلي، فيحرص على تحيتي حيثما صادفني، بل التقطني من الطريق أكثر من مرة، وشتّان ما بين البيجو وسيارة كل الناس.
ولكني أراه الساعة مرتبكاً!
أتظاهر أني مُكِبٌّ على الكتاب كي لا يظنني أنتظر تحيته كتنابلة حينا الذين يقتعدون الرصيف ويحملقون في المارّة بانتظار تحية منهم، فيمر كأنه مرتاح لانشغالي عنه.ويعود بصفيحة فارغة، ويظل يتلفت يميناً ويساراً وهو يدور حول المازدا، وزقاقنا في أوج بلادته؛ حتى العصافير تصالحت وكفّت عن الزقزقة. وشجرة الحور الوحيدة استسلمت لغفوة إلزامية، وأنا الشاهد الوحيد أتظاهر بأني غارق في القصة.
ولكن ماذا ينتظر؟ ولماذا هذا الارتباك؟ كل الذين يعودون بالقوافل إلى حينا يُنزلون غنائمهم علناً ودون رهبة، بل قد يسخّرونك معهم!
ويفتح بعد تلكؤ مؤخرة السيارة، وأنتظر أن يخرج منه ما يخرج من مؤخرة غيرها.
وينبجس العرق اللماع من جبينه الأنيق، ويندلق على ذقنه، فعنقه، فصدره. ويسطع شعره الذهبي الأجعد تحت القيظ، وأترقب ملهوفاً ما سيخرج.
ويخرج خرطوم مطاطي بطول الذراع!!
ترفّ أوراق الحورة كأنما تفتح أجفانها، وتتجمع بضعة عصافير على شريط الكهرباء. أتوقف عن متابعة ما في الكتاب، وأخلع النظارة العجائزية. وأوجِس أن الحصاة ستجعّد الآن وجه البركة!
يفتح الشاب طاقة صغيرة في خاصرة المازدا، ويُدير المفتاح،ويتوقف. تتوقف ورقات الحورة المتحفزةُ عن الحفيف، وتُمسك العصافير أنفاسَها: يُدخل الشاب طرف الخرطوم حيث دار المفتاح، وطرفه الآخر في الصفيحة الفارغة.
وما زلتُ لم أفهم، أو آبى أن أفهم!
ويشرع يمصّ ويبصق، ويمص ويبصق، إلى أن يهمي ما في قلب المازدا!
يتسارع نبضي، وأرى قلبي يحتج تحت القميص، يعتصره إحساس من يرى فتاة تُغتصَب، أو ولداً يصفع أباه، أو...
ويقفز ذهني إلى المكان الذي أمضيت عمري فيه معلماً ومتعلماً. وأستعيد وجهه المرهف وجسده النحيل وقامته الممشوقة. أستعيد لهفته إلى العلم، وارتباكه وهو يُسمِعني الدرس، وهو يسأل عن شيء لا يعرفه.
وأحسُّ أن كل المدارس التي تعلّمت فيها وعلّمت، من كُتّاب الشيخ، إلى المدرسة الفرنسية ذات الأرضية الخشبية، أحسُّها تُطبق على صدري ثم تنهار على رأسي.
وأرى كل الذين تخرجوا على يدي يحملون عِصِيَّهم وحجارتهم، وينهالون عليّ.
وأراني أنهال بدوري على كل من علمني حرفاً، من شيخ الكُتّاب إلى آخر أستاذ جامعي.
وما زال قلب المازدا ينزف، وأنزف معه. وتنوح شجرة الحور البعيدة، وتحتجّ العصافير، وتتلاطم أشرطة الهاتف، والكهرباء،والتوتر العالي، والواطي...
سيسيل الوقود على أرض الشارع الملتهب، وسيشتعل الحي الغافي ويحترق وهو لمّا يصْحُ. ستحترق البيوت، والأبواب، والنوافذ. سيمتد الحريق إلى مدرسة الحي، فالتي تليها.
وستشتعل المدينة كلها عاراً!
وأكاد أحس بالنار تلفحني. أتصبب عرقاً وأنادي بصوت مبحوح زوجتي التي تمسح البلاط للمرة الألفين، فيرفع الشاب عينيه إليّ لحظة، فأرى فيهما تلك الوقاحة التي تراها في عيون الذين فقدوا ذاكرتهم.
تتوقف الشجرة عن الحفيف، بل أتصور أوراقها اصفرّت فشرعت تتساقط بالجملة.
وتتجمد العصافير المقرورة على أشرطة الكهرباء.
وأكاد أصيح فيه أنْ ستحترق يا فتى، وسيحترق بيتك، وبيتي، وكتبي، وأسرتي، والمدرسة، والحيّ...
ولكن شيئاً من هذا لا يحدث!
وتسألني زوجتي للمرة العاشرة من المطبخ:
_ قل لي يا رجل ماذا سنأكل اليوم؟
ويحملق الشاب فيّ وهو يحمل الصفحة المتخمة، ويسلّم عليّ بكل اطمئنان:
_ صباح الخير يا أستاذ!
الموقف الأدبي العدد 229 _ 233 أيار _ ايلول 1999