النَّدبة
اليومُ السادسُ من تشرين!
أخنق ساخطاً المنبه الذي نسيت أن أعطله قبل أن أنام، وأنقلب على الجنب المرتاح لأنتقم من المنبه ساعة أخرى أو ساعتين؛ فها هو يوم إجازة أنا أحق به من الملايين الذين لا يذكر كثير منهم متى كانت الحرب، ولا يعرفون إن كانت الجولان شمالهم أو جنوبهم.
هاهو يوم إجازة آخر ساهمت مع آلاف من رجال ذلك العقد في صنعه؛ فلا أقلَّ من أن أستمتع!
وأتجمعُ على نفسي، وأضم الغطاء مستمتعاً بلسع صباح الخريف. أفرح كالأولاد بأني لن أذهب إلى العمل هذا اليوم، ولن أوقّع جداول الدوام، ولن أطلب فنجان قهوة وراء فنجان... وسأرتاح من لغط الكلمات المتقاطعة. ولن أختلس ربع ساعة من آخر الدوام لأؤمّن لنفسي لا مقعداً في الميكروباص بل موطئ قدم يحميني من شر الانتظار على جسر فيكتوريا.
ثم ماذا بقي لي من تشرين غيرُ ذكريات وشريط مشوش من تلال وصخور، وحشود وعجيج مدافع وصورايخ، ووهْج قنابل؟! فلْأحتفل على طريقتي بساعة نوم إضافية من كسل الفراش!
ولكن القلب ينفصل عن الجسد المسترخي ويرحل بالذهن كلما أغمضت العين عقدين من السنين إلى الوراء. وإن لم أغمضهما فكيف يعود إليّ النوم؟!
ويبدأ القلب يأكل صدري: انظرْ! ها قد انضافت عقدان من السنين إلى ما كنت عليه في ذلك الصباح، عشرون خطوة باتجاه المنحدر الأبدي. والقدمان اللتان كانتا تجريان بك ساعات وكيلومترات تتكاسلان أن تحملاك إلى أبعد من موقف الباص. وعيناك اللتان كانتا تتصيدان الأهداف في حالِكِ الغبار والدخان علتهما عينان إضافيتان. آه يا للزمن الذي تفنن الأدباء والمفكرون في ذمِّه؛ ماذا أضيف إلى أقوالهم؟! من كان يصدّق في ذلك اليوم أني سأبلغ الثلاثين وأصبِح رجلاً في عُرف الناس حتى زحفت دون أن أشعر إلى مشارف الخمسين.
والقلب يظل يتلوى في الصدر، يتمسكن ويتمسكن حتى أحسبه سينفرط كمحرك انقطع عنه الوقود. سيفعلها هذا اللعين الذي لا يكل ولا يمل إذا شاء، ولكنه لا يأتمر بأمر صاحبه. هكذا يفعل بي دائماً حين أهمّ أن أرتاح أو "أنبسط". يدفعني حيناً إلى الوراء، ويقذفني أُخرى إلى الأمام المظلم حتى يُفسِد أفراحي المرتقبة كنشرة أخبار مشؤومة.
لا بأس، سأداويك أيها القلب المنحوس!
أهيِّئ على عجل مقدمات السيجارة الصباحية: أضع إبريق الشاي على الغاز، وأتوقف عند المغسلة: الملح في الشعر أكثر من الفلفل، والصلع يحفر مجريين مثلثين في الصدغين.
حسناً، ومن لا يشيب؟!
أحتسي كأس الشاي والسيجارة على النافذة. أتلقّط آخر تطورات الحي الذي تنبت فيه بقدرة قادرين أدنى بشبر من القادر الأكبر أبنيةٌ لا شكل لها ولا لون. وبسرعة أدنى من سرعته بشبر؛ حتى العصافيرُ ما عادت تجد أعشاشاً إلا شقوق الجدران الرمادية. والشمس احتارت كيف تصل إلى العباد الذين لا يملكون غيرَها.
تحاصرني البنايات الشائهة، ومطربو الدرجة العاشرة يتاجرون بأمجاد الحرب مرهقين من سهر الملاهي فأغمض العين والأذن. غير أن أخبار إذاعات الجيران تحل محلها: حروب الطوائف، والأساطيل التي تغزو شواطئ المرجان واللؤلؤ...
وباعة المازوت، والمقشات، والبطيخ، كلهم يتآمرون على عطلتي التي كسبتها بكدِّ يميني:
إذن لابد من الخروج!
الحمد لله أن موقف الباص اليوم شبه خاوٍ فلا موظفين ولا طلاب؛ حتى لَيتمنى المرءُ أن يتنزه نهاره في باصات النقل الداخلي... والشوارعُ صامتة لا يُفسِدها إلا زعيقُ سيارة غاضبة، أو زوبعةٌ تلف الوجوه من حين لآخر بعبيرِ بردى، ونثارِ المتنزهين على ضفافها والمتكسبين. أمشي على غير هُدى فلا برنامج لديّ. أتسكع في الشوارع كما حاولت عما قريب أن أفعل في الفراش. لا زوجة معي تملي عليّ طلبات لن تتحقق أبداً، ولا أولاد يشحطونني من واجهة إلى واجهة.
أنا حرٌّ هذا اليوم! وهل أَقلُّ من أن أحقق حريتي يوماً في العام، ولْيكنِ اليوم الذي كنت أحد صانعيه!
وأتجاهل أبواق السيارات القليلة وكاسيتات الشارع المتناعقة. وأمضي في الشارع الغافي لا يصدمني أحد ولا أصدم.. أعبر الشارع على الماشي.. يوقفني الفضول عند بائع كتب قديمة.
وفجأة، كما في الأفلام العربية، يقفز إلى سطح الذاكرة صديق قديم لي في هذه العطفة: أحمد الحصري!
آه يا أحمد! أنت الوحيد الذي بقي في ساحة حياتي يحمل عِرقاً من تشرين! كل الرفاق تبددوا: بعضهم أرّخ شاهدته بهذا اليوم، وآخرون ذابوا في تراب الجولان، وغيرهم ابتلعتهم الزوجات والأولاد والهموم.
كيف نسيتك يا أحمد كل هذه السنين؟! حين كان دم تشرين ما يزال حاراً في العروق كنت أتوقف عندك كلما سنحت فرصة أسألك وتسألني عن رفاق تلك الأيام. ونستعيد في غفلة من زبائنك اللحظات التي تنزرع فيها أولى بذور الملح في الشعر.
أنت الوحيد الذي كان يشحن نفسي بالاعتداد، ونحن _ المحاربَين القديمين _ نتذاكر في غمرة الأخبار الرديئة التي تستنزف العمرَ وأمجادَ الحروب اللحظاتِ التي تفضح ما في الأعماق من ضعف، وما فيها من رجولة.
أقرأ في غضون جبينك تاريخاً طويلاً من الذل والرعب طويناه يوماً بانطلاقة دبابة، بقذيفة مدفع، بـــــــــــــــــ "الحمد لله على السلامة" تبادلناها على أرض الجولان عبْر الدمع المجبول بالتراب.
... ولكن ركنك المعهود أراه فارغاً اليوم. وعربتك التي كنت تبيع عليها الكتب والمجلات القديمة حلّت محلَّها "كولبة" تبيع أحدث التسجيلات والقداحات والفيديو. وأسأل ملهوفاً: أين أحمد الحصري؟ أحمد ذو الأرواح السبعة أين هو اليوم؟
وأفهم من خلال زعيق "لولاكي لولاكي" و"مجنونة مجنونة فيك" ولا أدري ماذا، أنك في السنجقدار.
عظيم يا أحمد؛ أصبحت تاجر أحذية!
وتخلصت من فقرك المزمن: الجميع كان يستغرب كيف يكون أحمدُ الحصري ابنُ دمشق فقيراً! وتجيب: وهل كلُّ مَن في دمشق "حربوء"؟! ويسخرون منك وأنت تحمل مخازن بندقيتك الأصلية والاحتياطية في نوبة حراستك الليلية، وفي خروجك ليلاً لقضاء حاجة خوفاً من الضبع اللعينة. وتجيبهم بلا مواربة: كلكم أولاد ريف ورعيان، أما أنا فشاميّ قحّ، أرتعد من سيرة الضباع والذئاب.
ويجمعون لك الحيايا والعقارب والعناكب لتبيعها يوم مبيتك في دمشق إلى من لا يدرون، بعدما عرفوا أنك حقاً براتب المجند مسؤول عن أم وإخوة!
ويعرفون أن الساعات المعدودة بين تغيير ردائك العسكري وعودتك بغَلّة العربة تصرّف غنيمتك، وتبيع إلى جانبها ما تبيع. وحين تقع على حمولة رمل أو سيارة إسمنت تنقلها إلى أعلى ما عمر الله تكون قد وقعت على كنــز.
ولكنك شامي قحّ، وتعرف أحسنَ منا ــــــ نحن أولاد الريف الدراويش_ كيف تدبِّر أمورك. ويحسدونك، وحقَّ لهم فها قد أصبحت اليوم من تجار السنجقدار "على سنٍّ ورمح"!
وأحثُّ الخطا إليك. سأعانقك كما فعلتُ وراء الخندق قبل بضعة عشر عاماً. وتستضيفني في محل عامر بأربعة جدران وسقف. ونحتسي كأس الشاي على القاعد، لا على الشارع. ونجلس طويلاً؛ فها هو يوم عيدنا. وتقدمني لزوّارك: رفيق سلاح قديم! ونثرثر وإن لم يعد أحد يسمعنا بعدما أصبحنا أشبه بعسكر "سفر برلك"، فاليوم عيدي وعيدك، عيدٌ صنعناه بقلوبنا قبل أيدينا، عيد لا يزاحمنا عليه نبي أو قدِّيس، عيدٌ نحن أنبياؤه وقديسوه.
وسنتشفى من أيام المرارة الطويلة. وتتشفى من أبيك الذي هجركم ملقياً على ظهرك هذا الحمل. وتتشفى من أيام الحيايا والعقارب، ومن عتالة الرمل والطوب إلى أعالي البنايات. وسنسترجع سيرة الملازم فلان والنقيب فلان، وليالي الحراسة بجعبة الذخيرة والمطرة والكمامة محتمياً بعمود الخيمة من الضبع الكريهة، وليالي الاستنفارات نسهر طوال الليل نرصد ضوءاً طائراً...
وكم لجنة تفتيش مرت عليك قُبيل الحرب، وكم اختباراً أجرَوا لجاهزيتك! وكم ثقبت بإصبعك نيابة عن راميك دريئة الرشاش، وكم هربت من المعسكر، وكم فرّوجاً "لهفْتَ" من وراء المساعد لزملائك في الخيمة! وكم مرة تظاهرت بالمرض وردّوك خائباً. وكم وكم...
وسنضحك من أنفسنا طويلاً كيف رمينا عموداً خشبياً و"قاموع" أحجار قبل أن نكتشف الأهداف الحقيقية... ونسرد للمرة المئة كيف أصبنا أول هدف. ونغالب دموعنا هنيهة ونحن نستذكر شهداءنا.
وأصل إلى السنجقدار!
وترتاح الأذن من جلبة المسجلات والباعة لأسمع صوتك الشامي. وتتدلى الأحذية والشحاطات من على الواجهات. وأبحث من تحتها عنك؛ أنت الوحيد الباقي لي من لحِم تشرين.
وستروي لي كيف عبرت هذا الشارع في يوم من ذلك الـــ "تشرين" عائداً إلى بيتك باعتداد، وكل شيء على ما يرام: الخبز في الأفران، والنظام في كل مكان، والفتْيان جاهزون لكل طارئ، والهامات منتصبة، والعيون مشحونة بالعزيمة.
وأرى الآن مكانهم أشخاصاً يقتعدون الرصيف، وأمام كل منهم سندان ومطرقة وعلبة مسامير صدئة. كلهم يحملون نفس الملامح، ويمدون نفس الأذرع والأصابع المعروقة...
لكن واحداً منهم ضئيل، في جسمك وكسمك.
ويقفز القلب اللعين كجهاز إنذار محذراً من شر قادم. وأحاول أن أمضيَ غير مكترث لما ألِفناه في شوارعنا. غير أن نبض القلب يطّرد، وموجاته تعلو، ويعود كما كان في تلك الأيام البعيدة يلتقط بحاسته الخفية رائحة الدم التشريني.
هل تدري؟ اللحظة الوحيدة التي لا تعرف أنت تفاصيلها إلى الآن هي لحظة انتشلوك وحيداً من المدرعة، وبعد عراك مرير مع الألغام والصواريخ والعدو.
لحظة انتشلوك _ وسأرويها لك بالتفصيل مادام العهد تقادمَ _ لم يكن على لسانك غيرُ أسماء رفاقك الغائبين عن المدرعة.
... وبطحوك على الأرض، وصبوا الماء على وجهك، واستجوبوك، وأنت ليس على لسانك إلا أسماء وبضع كلمات فارغة في ذلك الظرف: النار.. الصاروخ.. المحرك.. فدعَوا لك أن يردّ الله رشدك وتفرقوا.
ولما افتقدوك مساء لم يصدّق أحد أنك عدت إلى الخندق المجزرة، وإلى الضبع والذئب. لم يعرفوا أنك هذا اليوم مسحت من ذاكرتك هذه الأسماء، ولم يبق على الشاشة إلا رفاق المدرعة.
وعدتَ بجريح وقلادتين أضحتا هذا الصباح بلا رأسين!
وعدت بجرح عميق في العنق؛ من أين؟ وكيف؟ حتى أنت لا تدري؛ فما كان أسهل أن يصيبوك في ذلك القفر، حيث لا ضباع ولا ذئاب إلا قذائف المدافع وصليات الرشاشات.
وأقتربُ ويدي على قلبي!
يا ربِّ أجد الحصري صاحب سقف وأربعة جدران ولو كان " خشة "! ولكن الجرح يعمق خطوة فخطوة، ورعب تلك الساعة الليلية حين حملت الجريح والاسمين يحفر قلبي.
ولا أدري لماذا يعود يصطك رعباً. ها قد مضت بضع عشرة سنة، وما عدت،لا أنا ولا أنت، في سِنّ أو جسم يسمح بارتقاء المدرعة ثانية. ولكن وحشة تلك الليلة التي تمزقها من حين لحين صلية رشاش أو قذيفة مدفع عمياء ما تزال تسكن قلبي.
ما كان أسهل عليّ وعليك وعلى أيٍّ كان أن يواجه في تلك الليلة ضبعاً أو ذئباً فيصارعه أو يخاتله، ولكن كيف تصارع أو تخاتل القذيفة؟!
وأعرف أن الرهبة زايلتك منذ اختلست نفسك من بين رفاقك، ومضيت وحيداً لا يهديك وسط مستنقع الغبار وركام الآليات القتيلة والجثث إلا حبل الرحم الذي يصلك برفاقك.
... وعدتَ بجريح وقلادتين وندبة!
ليتك لست أحمد!
وينقطع سيل الأغاني المائعة وزعيق المسجلات والأبواق، وتتبلور الندبة خطوة فخطوة على عنقك!
وأحتمي بكيس الورق الذي على رأسك يقيك من شمس تشرين!
ولكنك أنت أحمد!
وأقترب: خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء!
إن شاء الله ما يكون أحمد، إن شاء الله!
ولكن الله لا يستجيب!
وتندلق كأس الشاي وأفراح الصباح. وترفع إليّ عينيك المسكونتين بفقرٍ قدَريّ، وعنقَك الذي عاد من تشرين يحمل جريحاً.. وقلادتين.. وندبة!
البعث تشرين الأول 1991