قاع النهر
قاع النهر
على جسر النصر، في أكثر من عاصمة عربية. وفي ساعة من هدأة النهار، حين تتكاسل الأرض عن الدوران، وتعشش الشمس في الرؤوس السوداء، ومئات الصدور تستنشق عبق التاريخ يحمله نهر ينام على أمجاد الماضي غيرَ آبِهٍ بما يرفده من مخلفات الحضارة الوافدة. في هذه الهدأة والأعناق تشرئبّ إلى حافلة تلفظهم خارج أبواب التاريخ إلى حزام الفقر، تسمع نبض قلبك كنواس ساعة مرتبكة، مهدداً أن يتوقف في أي لحظة، فتشكر نعمة الله عليك، وتدرك أن الخيط الوحيد بينك وبين الوجود هو هذا المجنون الذي لا تدري لماذا يظل يقرع في صدور بعضهم عشرات السنين، ولماذا يأبى البتّة أن يقرع في صدور الآخرين، ولماذا يختلج لأتفه خطر. يقدح الصوان حيناً، ويسيل حيناً على أحداق الغانية الأولى.
في هدأة النهار والريح والزحمة هذه، زحفت الحافلة المرتقبة عبر الجماهير المحتشدة على جسر النصر، محمولة على الأكف كجنازة مسؤول تاريخي، فأحرز الفِتيانُ والأصِحّاء شرف السبق، وقنع الباقون بنعمة التبع. وفيما اعتقد الفريقان أن المعمعة العمومية انتهت، وأصبح النهر ذكرى بائسة ليوم آفِل، كفّت الأرض لحظة كغمضة عين عن المسير، فتوهجت الشمس، وتموج قاع النهر، وتلاطم الماء، حتى إذا استقر انشقّ عن مارد خرق سُدُل الزمان والمكان، وبهر عيون الحشد كصحن طائر. وعبَر نافذة الحافلة فهيمن على المقاعد، وأذهل العقول، وعقد الألسنة، فصفت النفوس، وهدأت القلوب،وصدقَ أن وراء العالم عالماً آخر.
... في المحطة الأولى، والعقول ما تزال مشلولة، صعد عجوز يحمل على عكازته ثلاثة أرباع القرن. قال الجميع: كُرمى لهذا الهيكل بقيت المقاعد فارغة. اندفعت العكازة إلى المقعد، ولكنها توقفت كما لو صدّها إشعاع ساحة كهريائية. استعاد العجوز توازنه وهو الذي لم يشهد معجزة النهر لما انشق عن المارد. واستعان بتميمة الماضي، وبجيلين خرجا من صلبه عبْر أكثر من رحِم: أنا من حارب تحت لواء الجزائري وعرابي والقسام والقاوقجي، قتَل وقُتِل، أسَر وأُسِر؛ أفيجرؤ هذا المسخ عليّ؟! وهمّ أن يرفع العصا. غير أن صوتاً انبعث في اللحظة نفسها من أعماقه: إيّاك!
لم يصدّق أن من يكلمه ليس شخصاً آخر، فتجمدت ذراعاه. قال العجوز الداخلي: أنا أكبر منك بقرون فالزم حدودك، وتذكّرْ أنك لست إلا رقيقاً عبَر بلاد البلغار إلى الأندلس فإفريقية وآسية، أو عبَر منابع النيل إلى ما بين النهرين والحلق في أنفك وأذنيك، ثم باعوك في أكثر من سوق. استجمع العجوز آخِر أمجاده: كلنا عباد الله، وأمثالي قادوا الجيوش، وفتحوا البلاد، وحكموا واستوزروا. قال الصوت العميق: حقاً؛ولكنك تبقى مملوكاً، دمك أرخص من دم الأحرار، وشهادتك أبخس من شهادة معتوههم. حتى إنك لما حكمت باعوك بالمزاد العلني ليحل حكمك شرعاً! ومع ذلك ظلت الوشمة على جبينك؛ انظُرْ؛ ألا تراها؟! أما هذا الذي أمامك فما أظنه إلا سليل أحد الأكاسرة أو الأباطرة. شجرة الشرف معرّشة على جبينه. أمجادك كلها وانتصاراتك جُيِّرت له آخر الأمر.
خنس العجوز، وظلت العصا معلَّقة!
... المرأة المدرعةُ بحُجُب القرون، المتأبّطةُ عربةَ وليدها ابتهجت بالمقعد الفارغ. تجرّأت وقد عميت عن الهالة المنعقدة على رأس المارد، فدفعته بجانب مقعدتها. كان سليل الأباطرة أرقَّ من أن يرد على ضلع قاصر. دفعته بطرف العربة دفعاً رفيقاً ريثما تشحذ لسانها لمعركة يهابها الشجعان. بادر الرضيع المحمول على يُمناها: حذارِ! تذكري أنك يا امرأة سليلة أَمَة تدرجت في سلم الشرف من سرير السلطان، إلى سرير الوزير، فالوالي... حتى رموك إلى دار البغاء أو قارعة الطريق. شهرت المرأة لسانها نحو رضيعها المتشبث بثديين أذبلهما تَعاوُرُ الأيدي والشفاه: اخرسْ يا قليل الأدب! أنا وُلِدتُ حرة، وعشت شريفة. وأنت أقرب الشهود على شرفي. قال: يا أمي أنا أقدّرك حق قدرك ما دمت على صدرك، ولكن أنسيتِ أنك منذ ترمّلتِ، بل وقبل أن تترملي، لا دور لك في المنظومة إلا أن تمتعينا، فتحملي مخلوقات مسلحة ومخلوقات عزلاوات، فيفترس المسلحون العزلاوات. أتجرّأت يوماً أن ترفعي صوتك في وجه من يعلوك؟!
بدا للرضيع أن مرضعته لما تقتنع. لطّف من لهجته وأكمل: ألا تعلمين أن قيمتك منذ خُلقتِ محصورة في مثلث الخصوبة؟ وأن بضع قطرات من الدم ترشح عبر هذا المثلث تقرر شرفك وبراءتك، وأن نهراً من الدم يسيل كلما أجدب هذا المثلث؟! همّت الضلع المكسورة أن تذبّ عن عرضها غير أن حجج الرجل كانت مُفحِمة: أغرّتكِ أناشيد الحب والأمومة فنسيت كم من الحروب تسببت فيها، وكم فرّقت بين الأخ وأخيه؟ ألا تخجلين من أنك أخرجتِنا من الجنة؟ فذوقي العذاب إذن، وعزاؤك الوحيد أنك تغمريننا بما تسمينه حباً وعطفاً..
.. الشاب ذو البزة الجامعية ناءت ذراعاه بمجلداته ونوطاته، وناء دماغه، فعميت نظارتاه المذهّبتان عما يحوم فوق المارد. طافتا وجوه القوم بنظرة ارتياب على عادة المثقفين. قالت النظارتان: أنت صاحب رسالة منذ حمل ديوجين مصباحه، أنت من هدم الباستيل، أنت من أرسى أول "كومونة "، أنت من كنس القيصر، أنت حامل الفكر والحضارة؛ يجب أن يكون لك موقف!
قال الثاوي في أعماقه:كفاك ثرثرة! تذكَّرْ أنك لولا رعاية السلطان لما سمع صوتَك أحد. ولولا أَعطيات الخليفة والوزير متَّ جوعاً، ولولا فتَحَ لك مكتباته ما تعلمت حرفاً. من تظن نفسك؟!أصدّقْت أنك نبي جبران! لستَ إلا حامل سلّم ولكن بالعرض! قالت النظارتان: ولكن ما أكثر ما نهرت السلاطين وحرّضتُ الغوغاء، ما أكثر ما حملت سيف الحق وميزان العدل! قال الثاوي: كله بمشيئته وحده. لا تدعني أقول المزيد: كم زحفتَ على أعتاب العظماء، وقبّلت الأرض من بين نعالهم. كم منّوا عليك أن تنشد مدائحك جلوساً؟! أنسيت الدنانير والضِّيَع والخِلَع؟ أم نسيت كم لساناً لك قطع، وكم عيناً لك فُقئ؟ وكم وكم...
غامت النظارتان في غيار الماضي ومستنقع الحاضر.أجهز الثاوي في أعماقه: قطْعُ الأعناق ولا قطعُ الأرزاق! اذكرْ أنك على وشك أن تحمل شهادة، وتتوظف وتتسلق...
... وصعد رابع اكتشف بعد جدل قصير أن صاحب العرش سليل الخليفة الذي أغرى عرب الشمال بعرب الجنوب، وبالعكس... وتذكر خامس كم من السياط انهال على جلده لتهمة الزندقة التي وصمه بها الخليفة، حتى رُمي جلدُه للكلاب. وتذكّر سادس أن رأسه حُمل إلى القصر حين نطق بكلمتين ممنوعتين من الصرف... وتذكر سابع أن أمه أنزلته من غير الموضع المعهود... فهدأت العاصفة ثانية ولاسيما أن النهر كفّ عن ملاحقة القافلة. إسفلتُ الشارع السائخ تَماسَكَ على هامش المدينة، والجميع تحرر من قيظ الجسر وغرق في سبات كئيب لم يُخرجه منه إلا شاربان عملاقان انتصبا كجناحي صقر على رأس ذلك المخلوق الأسطوري. هلّل الجميع وهمهموا: إن كنتَ ريحاً فقد لاقيت إعصاراً!
قال الشارب الأيمن: اِقلعه من مقعده وارمِ به من النافذة لتهرس رأسَه أولُ سيارة عابرة! قال الأيسر: " لعيونك! " وازرعْها بذقن سيدك الذي سيتفهم الموقف. وفي اللحظة التي أوعز فيها الشاربان للذراعين أطلق القلب صفارة الإنذار: ليس هذا الكائن عادياً، أنا أقربُ إليه منكما، أرى " كراماتٍ " على وجهه الخفي عنكما.
تضافر الشاربان: لا تكترث أيها الهمام، عضلاتك مفتولة، وقاموسك غني بأحلى الكلام لهذه المناسبات؛ ما رأيتك يوماً بهذا التردد. قال القلب: ليس الشديد بالصرعة بل الشديد من يملك نفسه في الوقت المناسب، صحيح أن لكما سطوةً، ولكنكما الآن أمام الأعتى!
تدفق التاريخ المعشش في كتبه الصفراء عبر تلافيف الدماغ الذي يعلو الشاربين أحياناً: هذا الذي أمامكما سليل أحد خلفاء الله على أرضه، له قِدْحُ الشرف المعلّى، وما أنتما إلا مستعاران؛ قبْلَهما سُبي هذا الجسدُ إلى مسلخ عالجه فيه الدهاقنة ليؤتَمن على حريم السلطان. قال الشاربان: ليس صحيحاً؛ تزوجتُ وأنجبتُ. قال الدماغ: حقاً أنجبتَ خصياناً مثلك بخصية زائفة؛ تلمَّسِ الآن سروالك لتعرف حقيقتك. اشكر الله أنك على قيد الحياة، ما أكثر أقرانك الذين قضَوا من رعب العملية! همَّ الخصيّ أن يقول شيئاً. قال الدماغ: أتسكتُ أم أذكِّرُك بما قاله الشاعر فيك؟!
تلمّس الآبقُ خفية ما بين الفخذين فخنس!
انكسرت الوجوه، وتدلّت الرقاب بعد الجولة الأخيرة، وابتكر كلٌّ ما يصرفه عن مقارعة المارد حتى كانت المحطة الأخيرة: ترجّلوا إلا إياه!
حار الرُّبّان كيف يوحي إليه أن الرحلة انتهت حتى استجمع كل لطفه فاندلق إليه، وربت بطرف إصبع على كتفه. سرى تيارٌ حارق في إصبع الربان، وانعقدت زوبعة لفّت الحافلة. انبجستْ من زوايا الحافلة الفارغة أجسادٌ وأجساد. وتطايرت سِيَرٌ وتواريخُ ومجلدات، ارتفعت جميعاً ترصِّعُها سيوف وتيجان، على أنغام أنين كان بشرياً، وتمازجت في هالة أسطورية ارتدت إلى قاع النهر.