الهاوية
على مدخل أحد الطوابق انتحيتُ، لا لأستريح، بل لأني لم أعد أقوى على الصعود. كان عشرات العُزَّل من أمثالي يصعدون وفي أعناقهم سلاسل ثقيلةٌ أولاداً وإيجاراتٍ وأقساطاً. غير أننا كنا كلُّنا عاجزين عن أن نرمي أحمالنا أو ننكص على أعقابنا فالقافلة وراءنا لا تسمح بهذا. ولم يكن من سبيل إلى التراجع سوى بضع نوافذ تنفتح على هاوية سحيقة من كل اتجاه. حقاً لم أر بأمِّ عيني من يفعل هذا وإن كانت صرخة رعبٍ تنبعث من حين لآخرَ، لا أدري أهي من مغامر اختار أقرب الطرق أم من رصاصة مسددة أو طائشة أصابت أحشاءه، أم من سيارة عابرة تشق طريقها بلا مبالاة على أكتاف العباد.
كان عليّ أن أُغِذّ السير غير آبِهٍ بارتفاع دوران القلب أو نفاد وقود المحرك أو الآلاف الذين عقدوا حلقات الرقص احتفاء بتجاوُزِهم منتصف الطريق. صرخ مجنون: كل طابق وأنتم بخير! ردّ آخرُ: لا يهمّنّكم شيْ؛ النهاية قريبة يا حضرات! صفع زوج زوجته، ردت الزوجة بسيل من الشتائم، وردّت أخرى بفردة حذاء، واستكانت ثالثة. لسع سوط الحارس المتأهب على المدخل ظهور بعض الكسالى، واستهُم زوجاتهم فاستمروا. سقط كثيرون منا تحت سنابك الصاعدين. اندلقت أشياء غريبة على بلاط الردهة. تزحلق من تزحلق، وتعثّر من عثر بنثار الزجاج المحطم من عواصف الشتاء. بكينا عليهم قليلاً إلا أننا لم نتوقف فهدفنا آخِرُ ما نستطيع بلوغه.
امتدّت أيدٍ كثيرة إلى جيوبي. صفعني آخِرُهم فقد كانت خاوية وصرخ في وجهي:
_ عطّلتني يا حقير!
ثم مزق بنطالي. خلع آخَرُ حذائي. كان الجديد الوحيد في ما أملك، وشكرني، فتقبّلتُ لطفه ومضيت.
تساءلتُ وتساءل غيري: ما نهاية هذا الصعود؟ ارتعبت حين أجاب بعضهم أننا قد نبلغ الطابق المئة، وقد يكون بعد المئة عشرةٌ أخرى أو عشرون.
تساءلت مع غيري: إلى أين نحن ماضون؟ أجاب عجوز يقرأ في كتاب أصفر: إلى حيث تتقرر مصائركم حسب المعلومات الواردة عنكم. وراح يقص علينا حكايات تشيب من هولها الولدان. قاطعه شاب رقيق يحمل كتاباً بيد ونظارة بيد: إلى النهاية الموضوعية التي لابد منها لتجدُّدِ المسيرة ورفاهية الصاعدين القادمين.ولما ضاع صوته في زحمة المرور نتف شعرة من لحية العجوز، فانهالت عليه أكفٌّ قوية، فهبط درجة أو درجتين وأكمل خطابه.
سألني أكبر أولادي: وكيف " كشفُ أعمالك " أنت يا أبي؟ قلت: لا تهتمَّ فسنفترق عما قريب. قال: ولماذا تختلف كشوفاتُكم أيها الكبار مادمتم صاعدين البناءَ نفسَه؟ قلت لا تزعجني بهذه الأسئلة، نفَسي يكاد ينقطع! ولما قرأت في عينيه أنْ كنت يا أبي تدّعي معرفة كل شيء نثرتُ فيهما حفنة من تراب، فتلوّى وسكت.
داخ أحدهم وسْط الردهة، فحملته بعض الأيدي بإجلال. داخ آخرُ فوطئته نعال كثيرة. شدّته زوجته من ياقته دون جدوى. أسرع العجوز وتفحّص كشف درجاته. ولما اطمأنّ إلى حُسْن سلوكه بشّر أطفاله:
_ لا تهتموا! ستلحقون به بعد قليل.
على مقربة من نافذة محطمة الزجاج ابتعد عن بردها معظم الصاعدين جلستُ على الدرجة الأولى من الطابق التالي. هنّأتني زوجتي، وقبّلني أولادي.
_ عظيم يا بابا؛ ها قد صعدت درجة أخرى!
مدّت الريح لساناً من لهب إلى وجهي. اندلق الماء على ظهري وسال تحتي. تكورت حول أطفالي وزوجتي. لابد أن نستمتع بهذا الرقص في الردهة. تظاهرت بأني أتأملهم وأفكر بعمق. نظر إليّ بعضهم باحترام. صبّ الآخرون بقايا كؤوسهم في وجهي. انتظم الرتل الهجين من جديد. ركب بعضُهم ظهور بعض. شرع الذين فوق يهتفون ويغنّون.فرح كثير من الذين تحت، وبكى أقلُّهم. احتميت وراء لافتة لا أدري ما عليها وتابعت.
الجولان الثقافي حزيران 1986