من أين تشرق الشمس
إعلان بحث عن مفقود
" غادر الطفل حمود بن قاسم الهامشي دار والده منذ ثلاثة أيام ولم يعد... عمره تسع سنوات، قصير القامة، أسمر اللون، يرتدي سروالاً قصيراً وصداراً أسود. يرجى ممن يعرف عنه شيئاً الاتصال بقسم الشرطة أو بدار الوالده الكائنة في حي الأتقياء، دخلة الصالحين. وله منا مكافأة قيمة، ومن الله الأجر والثواب.
تفاصيل الحكاية
بردى ناقة بسبع ضروع يفيض طيباً وخصباً وأغنيات. بردى أخطبوط بسبعة فروع يفيض نتناً وكدراً وقاذورات. يحمل الحياة والخصب في بعض المواسم، ويحمل أوساخ المدينة وأوزارها في كل المواسم.
بردى حمودٍ أطولُ مما يزعم أهل العلم وإن كان أقزم الأنهار. بردى حمود أعمق مما يزعم أهل العلم وإن كان لا يبلّ أرجل الجراد. والنهر سلطان. ومن يحمل الصولجان يبطش. يتلوى كالحية ألف مرة. ويدخل في متاهات أشبه بعقول أهل المدينة. يجرف من تحت الناس الأقذار، ويتلوى على عدد الملايين.
ودمشقُ بملايينها خاوية في هذا الركن القصيّ، آخِرِ ما تمتد إليه ذراع الأخطبوط. وحمود يُغِذُّ السير. سيبرهن لرفاقه أنه قادر على الإفلات منهم. لن يكون برميل القمامة مخبأه منذ الآن حين يلعب معهم لعبة " الطميمة "؛ فحمود يعرف أصول اللعبة.
لم يعرف حمود أباه مثلما لم يعرف المدرسة إلا من صداري أطفال الحارة ومحافظهم، ومن خلال لعبة " المدرسة " التي يلعبها معهم في الزقاق. وإذ ذاك كانت عقوبة " الأستاذ" تحل عليه أسرع من غضب السماء، فتنهال عليه ضرباته وضربات التلاميذ من كل حدب وصوب؛ فيردد المارة من كبار الحيّ:
_ مسكين هذا " الحمود" لابد أن يكرمه الله بعد هذا العذاب.
ولم يكن يميز الليل من النهار، ولا عنده مواعيد للطعام مادام مرعى جده من هنا عامراً بالفول المنخور، ومرعى جده الآخر من هناك عامراً بالخضرة والفاكهة الفاسدة، إلا حين تبتلع البيوت الخشبية المتداعية ما نفثت من أطفال النهار، أو تنتشله أمه من برميل القمامة، مخبئه المفضل في لعبة الطميمة. ولكنها عادت في ذلك المساء تولول بعدما تفقدت براميلَ القمامة في الحي، والأبنيةَ المجاورة المهجورة التي كان يخفيه فيها رفاقه.
ولما عاد رجال الحي إليها من بحثهم المضني كانت ما تزال تنتحب، فصرخوا في وجهها:
_ استغفري الله يا أم حمود وأبشري خيراً! ابنك مجذوب. هذا من رحمته عليك وعلى أهل الحي؛ أنسيت أننا في حي الأتقياء؟!
ليل دمشق عباءة تستر الدنايا، ونهارها صراع ضارٍ على ما يقوم بأود الحياة. ولكن المرعى صار بعيداً، وأطفال الحي الذين هرب منهم حمود استحالوا جرذاناً وحشية. وبردى حاكم منصف ينتظر الأدلّة ثم يحكم ويمضي. وبردى قاض عادلٌ لا يحكم بالظن إلى أن تكتمل الجريمة. وبردى ألف جسرٍ وقنطرة تعلقت بها حدائقه الغناء وقصوره الأثرية.والليل والنهار يستويان في هذه المتاهات. الليل برد وجوع ينخران العظام، وجرذان تتصيد الشرف البشري، والشمس بركان يخرق إلى حيث فتك الجوع والبرد. والشمس سياط تلسع ظهر حمود وقدميه الحائرتين.
أشعلت عجائز الحي الشموع في ساحات الدور، وأوصين أحفادهنّ:
_ إياكم وإطفاءها! هذا حي الأتقياء؛ إن شاء الله يزورنا أحدهم الليلة؛ أبقوا الشموع إلى الصباح!
واختتم الجدان مسلسل شجاراتهما على ولاية حمود بصندوق خضرة فارغ في الهواء منذراً الآخر بأن يتحول إلى صف الأولياء. فانسلّ إلى حيث يغلي قِدْرُ الفول متمتماً ببعض الشتائم. ثم تصافيا في المساء فلا يجوز أن يُفسدا بوسوسة الشيطان البرَكةَ التي نزلت على الحي. واستمرا يستقبلان ويودعان المهنئين على طول الدخلة، رافعَين أيديهما من حين لآخر بالشكر والدعاء:
_ اللهم لك الحمد والشكر يا ربّ!
واستمرت حلقات الذكر وجنون الطبول والدفوف إلى أن ذبلت آخر شمعة، فتفرق المحتفلون لمواصلة البحث عن حمود.
أصل الحكاية
" وُجدت جثة طفل في حوالي العاشرة من عمره ملقاة في أحد فروع بردى، يرتدي صداراً أسود عليه اسمه. وتبيّن بعد الكشف الطبي أنه مات مخنوقاً بعد ما... "
وفي اليوم نفسه التفّ أبناء الحي حول " بركات" وهو من " أساتذة " حمود سابقاً في لعبة " المدرسة ": زاغت عيناه وتسمرتا بالأرض. وسال اللعاب على شِدقيه. فتهامس الكبار في ما بينهم:
_ " كانت البركة علينا مضاعفة هذه المرة! "