الإعراب بين الصناعة والمعنى
مقدمة
ننطلق من نظرة علمية إلى اللغات ترفض أي تمييز بينها على أي أساس، ولأي سبب. ولا نريد أن نقع في ما وقع فيه جورج مونان مؤلف "تاريخ علم اللغة منذ نشأتها حتى القرن العشرين" الذي تجاهل الأبحاث اللغوية العربية العميقة التي جرت في عصر الازدهار العربي، لا لشيء إلا أن القائمين بها ليسوا أوربيين، في حين رفعها غابوتشيان المستشرق السوفييتي (سابقاً) إلى مصافّ "البنيوية الوظيفية" أحدثِ ما توصلت إليه الدراسات اللسانية المعاصرة. ونتحامى كذلك التعصب الأحمق الذي جرّ بعض لغويي أوربا في القرن التاسع عشر، مثل الألماني شلايشر إلى تصنيف اللغات إلى لغات راقية معربة، ولغات غير معربة منحطّة. فلما وجد العربية معربة أُسقِط في يده فاتهمها باستعارة الإعراب.
من نظرة عميقة نقول: إن لكل لغة طريقتها في التعبير والتوسع. وعظمةُ القائمين بها هي التي ترفع شأنها، لا كونها معربة أو غير معربة. ومعروفٌ ما قدمه ابن المقفع والجاحظ للغة العربية في عصر ازدهار الأمة العربية حين حولاها من لغة شعر وخطابة إلى لغة للنثر الفني وللحياة اليومية. ومعروفةٌ خدمات العلماء العرب من نحاة وفلاسفة وعلماء أصول.
يعني المعرَبُ ما يتغير آخره بسبب العوامل الداخلة عليه، تقول: "جاءني زيدٌ" بالضم، و "رأيت زيداً" بالفتح، و "مررتُ بزيدٍ" بالكسر، بسبب ما دخل عليه من "جاءني" و "رأيتُ" و "الباء"(1)
ويضيف الزمخشري في "المفصَّل" إلى هذا التعريف أن "الاسم وحده ليس معرباً بل في جملة، لأن الإعراب إنما يؤتى به للفرق بين المعاني. فإذا كان [الاسم] وحده كان كصوتٍ تصوِّتُ به. فإن ركّبته مع غيره تركيباً تحصل به الفائدة، كقولك: "زيد منطلق" فحينئذ يستحق الإعراب لإخبارك عنه"(2)
تعتمد اللغات غير المعربة كالفرنسية على ترتيب كلمات الجملة، فلا دليل على وظيفة (محل) كل من "الرجل" و"الكلب" في مثل هذه الجملة "الكلب يتبع الرجل" سوى الترتيب. فإذا جعلتها "الرجل يتبع الكلب" انعكس التابع والمتبوع. أما في العربية فيمكن أن تقول: "الكلبُ يتبع الرجلَ" أو "الرجلَ يتبع الكلبُ" فيبقى رفع الكلب ونصب الرجل دليلاً على وظيفة كل منهما، إلا في مواضع خاصة حددتها كتب النحو، مثل كون الفاعل والمفعول به اسمين لا تظهر عليهما علامات الإعراب، فيجب تقديم الفاعل على المفعول في نحو "ضرب عيسى موسى" ليُعرَف أن الضارب هو عيسى.
ورغم ذلك فالأصل في العربية نفسها هو الترتيب فيتقدم الفعل على الفاعل، والفاعل على المفعول. وعلى هذا يعقد ابنُ جني باباً في "الخصائص" بعنوان "نقْضُ المراتب إذا عرض هناك عارض"(3) ومن العوارض على سبيل المثال كون المبتدأ نكرة والخبر شبه جملة، فيتأخر المبتدأ لأن حقَّه التقديم، نحو: "على الطاولة كتابٌ"، وتقديم المفعول به إذا كان اسم استفهام أو شرطاً، نحو قوله تعالى ﴿أيَّما الأجلين قضيتُ فلا عدوان عليّ﴾(4) والتقديم والتأخير باب عظيم من أبواب البلاغة العربية.
يقول ابن هشام في الباب الخامس من "مغني اللبيب" وعنوانه "في ذِكرِ الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرِب من جهتها": "وأول واجب على المعرِب أن يفهم معنى ما يعربه مفرداً أو مركباً (5) وهو الأصل في الإعراب بلا شكّ. ويقول ابن جني في الخصائص تحت عنوان "بابٌ في الفرق بين تقدير الإعراب وتفسير المعنى": "فإن أمكنك أن يكون تقدير الإعراب على سمْتِ المعنى فهو ما لا غاية وراءه"(6). وينصح في حال مخالفة تقدير الإعراب لتفسير المعنى بتقبُّل تفسير المعنى على ما هو عليه، وتصحيح طريق الإعراب.(7)
وفي الشعر يمكن تقبُلُ الزِّحاف، وهو من عيوب العروض، في سبيل صحة الإعراب. غير أنه إذا كان الوزن كله مهدداً بالكسر فلا مفرَّ من تقبُّل الإعراب الضعيف. (8) ولا ريب أن مراعاة ما يقتضيه ظاهر الصناعة دون مراعاة المعنى تُوقِع في الزلل، والمقصود بالصناعة فنُّ الإعراب وقواعده. وهذا الخلل بين الصناعة والمعنى موضوع الجهة الأولى من "الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها"(9)، نحوُ تعليق: "مِن" في قوله تعالى ﴿وإني خفتُ الموالي من ورائي﴾ (10) بـــ "خفتُ" وهو المتبادر إلى الذهن، و "هو فاسد في المعنى، والصوابُ تعلُّقُه بالموالي لِما فيه من معنى الولاية، أي: خفتُ ولايتهم من بعدي وسوء خلافتهم. أو بمحذوف هو حال من الموالي، أو مضافٌ إليهم أي: كائنين من ورائي، أو فِعْلَ الموالي ممن ورائي"(11) ومثلُه تعليق "إلى" في قوله تعالى ﴿ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله﴾ (12) بــــ "تكتبوه"، وهو فاسدٌ لاقتضائه استمرارَ الكتابة إلى أجَل الدين. وإنما هو حال، أي "مستقراً" في الذمّة إلى أجله.
وبالمقابل فإن مراعاة المعنى فحسبُ دون قواعد صناعة الإعراب توقِع في الزلل:
- 1 – " فيقول من لا يعرف أغراض النحاة: يقول النحويون إن الفاعل رفعٌ والمفعول نصبٌ. وقد ترى الأمر بضِدِّ ذلك؛ ألا ترانا نقول: "ضُرِب زيدٌ" بالبناء للمجهول فترفعه وإن كان مفعولاً به (في المعنى لأن فعل الضرب وقع عليه)، وتقول "إن زيداً قادمٌ" فتنصبه وإن كان فاعلاً (مسنداً إليه). ونقول "عجبتُ من قيام زيد" فتجرّه وإن كان فاعلاً. ومثل هذا يتعب مع هذه الطائفة. ولو بدأ الأمر بإحكام الأصل لسقط عنه هذا الهوَسُ، وذا اللغوُ. ألا ترى أن الفاعل عند أهل العربية ليس كل من كان فاعلاً في المعنى، وأن الفاعل عندهم إنما هو كل اسم ذكرتَه بعد الفعل، وأسندتَ ونسبتَ ذلك الفعل إلى ذلك الاسم، وأن الفعل الواجب (المثبت) وغير الواجب (المنفي) في ذلك سواءٌ"(13)
ومن الصناعة ما يدقّ، ومن المعنى ما يخفى على المعرِبين حتى متقنيهم. ومغني اللبيب لابن هشام زاخرٌ بأمثلة على ما ينجم عن الجهل بصناعة الإعراب، جمع بعضها في الجهة الثانية من الباب الآنفِ الذكر. منها قول بعضهم في ﴿وثموداً ما أبقى﴾(14): إن ثموداً مفعول مقدم، وهذا ممتنع لأن "ما" النافية لها الصدر، فلا يعمل ما بعدها في ما قبلها، وإنما هو معطوف على "عاداً" في الآية السابقة ﴿وأنه أهلك عاداً﴾، أو بتقدير: وأهلك ثموداً.
ومثلُ "ما" النافية في الصدارة أسماءُ الشرط والاستفهام. فإذا تقدّم عليها عامل امتنع أن تكون معمولة له، نحوُ "مَن" في بيت أمية بن أبي الصلت:
ولكنّ منْ لا يلق أمراً لا ينوبه بعدّته ينزلْ به وهو أعزل
فاسم الشرط مبتدأ لا خبرٌ للحرف المشبه بالفعل (لأن أسماء الشرط لها الصدارة). (15) وقول بعضهم في "إذ" من قوله تعالى ﴿إن الذين كفروا ينادون لَمقْتُ الله أكبر من مقْتِكم لأنفسكم إذ تُدعون إلى الإيمان فتكفرون﴾(16) إنها ظرف للمقت الأول أو الثاني. وكلاهما ممنوع. أما الثاني فلفساد المعنى، لأنهم لم يمقتوا أنفسهم ذلك الوقت وإنما يوم الآخرة.. وأما الأول فلاستلزامه الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي.
- ومن منطلق تطابق الإعراب والمعنى هاجم ساطع الحصري النحاة العرب فهم عرّفوا الفاعل بقولهم: "اسم مرفوع يتقدمه فعل" فإذا تقدم الاسم على الفعل لا يترتب على ذلك في عُرفِهم تحوُّلَ الجملة من فعلية إلى اسمية فحسبُ، بل خروج الاسم من الفاعلية أيضاً. فعندما يقال: "الولد نام" لا يرون مسوغاً لاعتبار الولد فاعلاً نظراً لمخالفة ذلك للتعريفات التي وضعوها. وبما أن هناك فعلاً يتطلب فاعلاً فإنهم يلجؤون إلى مختلف طرق التأويل الملتوية، فيقولون: إن الفاعل لهذا الفعل ضمير مستتر، وأما الولد فما هو إلا مرجع لهذا الضمير المستتر. ثم يقول: "إنني أعتقد أن الإنسان لو قصد التشويش لغرض من الأغراض لما استطاع أن يجد طريقة تصنيف وتفسير أكثر اعوجاجاً"(17). ويشمل الخطأُ المنطقي الذي وقع فيه علماء العربية تقسيمَ الكلمة إلى اسم وفعل وحرف، في حين تنقسم الكلمة في اللغات الأخرى إلى ما يقارب ثلاثة أمثال هذا العدد.
والخطآن اللذان لاحظهما ساطع الحصري مترابطان في أذهان النحاة العرب؛ فتقسيم الكلمة إلى اسم وفعل وحرف له علاقة بالتمييز بين المبتدأ والفاعل لأن النحاة عندما حصروا أنواع الكلمة في هذه الثلاثة كان معيارُهم الوظيفة التي تؤديها الكلمة في الجملة، ولهذا قالوا: الاسم ما يصحّ الإخبار عنه والإخبار به. والفعل ما يصح الإخبار به، لا الإخبار عنه، دون مراعاة معنى الاسم في مثل الضمائر وأسماء الإشارة.
درس الإمام الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" بنية الجملة العربية، وميّز بين ما يسمّى الخبر الابتدائي والخبر غير الابتدائي. فالأول ما لا عهْدَ للسامع به من قبلُ، والثاني ما عنده عنه فكرة مسبقة. وعرّفوا المبتدأ بانه اسمٌ عُرِّي عن العوامل اللفظية للإسناد إليه. والفاعل بأنه اسم مرفوع يتقدمه الفعل ويُسند إليه [الفعلُ]، وهو جزأ لا يتجزأ مع الفعل. وميّزوا الجملة الاسمية عن الفعلية بأن الأولى تصلح أن تنقسم إلى عنصرين يسمى الأول موضوع الكلام، والثاني محمول الكلام. أما الثانية فلا تقبل هذا التقسيم، وتحمل في مجموعها خبراً ابتدائياً مما يُطلق في بدايات الحكايات مثلاً لمن لا فكرة مسبقة لديه عن أحداثها، مثل: وصل رجل إلى المدينة...
وننوّه إلى أن ما وصل إليه النحاة والبلاغيون العرب قبل قرابة ألف عام يوازي ما وصلت إليه "البنيوية الوظيفية" أحدث المدارس اللسانية في الغرب.(18)
وختاماً، إذا كان الجاحظ، وهو مَن هو علماً وعقلاً، دعْك من ساطع الحصري، اقترب من حِمى النحاة يوماً ظاناً أنه ضبطهم متلبسين بالخطأ كما فعل الحصري، فأورد عليهم بيت الأعشى:
فلستَ بالأكثر منهم حصىً وإنما العزة للكاثر
وهم القائلون بأن "مِن" التفضيل ولام التعريف لا تجتمعان. فردّه ابن جني بأدبه الجمّ قائلاً "رحم الله أبا عثمان (الجاحظ)، أما إنه لو علم أن "مِن" في هذا البيت ليست التي تصحب "أفعل" المبالغة (التفضيل)، نحو: أحسن منك وأكرم منك... لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله، وذلك أن "من" في بيت الأعشى إنما هي كالتي في قولنا: أنت من الناس حرّ، وهذا الفرس من الخيل كريم. فكأنه قال: لست من بينهم بالكثير الحصى، ولست فيهم بالأكثر حصى"(19)
إذا كان هذا كله من الحصري ومن الجاحظ، فما نملك إلا أن نقول: "ربّ زدني علماً".
الحواشي
1 – شرح قطر الندى. ابن هشام 13.
2 – شرح المفصَّل لابن يعيش 1 / 49.
3 – الباب الثاني والأربعون من الخصائص، الجزء الأول.
4 – القصص 28 / 28.
5 – مغني اللبيب 7684.
6 – الخصائص 1 / 183.
7 – م. س 1 / 284.
8 – م.س 1 / 333 – 334.
9 – عنوان الباب الرابع من مغني اللبيب ص 684.
10 – مريم 19 /4.
11 – المغني 687.
12 – البقرة 2 / 282، وانظر المغني 687.
13- الخصائص 1 /185.
14– النجم 53 / 51.
15– المغني 384.
16– غافر 40 / 10. وانظر الخصائص 3 / 259.
17 – انظر "الموجز في شرح دلائل الإعجاز" د. جعفر دك الباب ص 10 – 12.
18 – انظر "نظرية أدوات التعريف والتنكير وقضايا النحو العربي". غراتشيا غابوتشيان. ترجمة د. جعفر دك الباب. ص 36.
19 – الخصائص 1 / 185.